مقالات

د. عاطف معتمد يكتب: لماذا يلجأ الكرملين إلى المرتزقة!؟

الأمريكيون هم أول من أدخل شركات القتل الخاصة في التاريخ الحديث مع غزو العراق وإسقاط بغداد في 2003.  كان العاملون في شركات الحرب الخاصة (ولا سيما شركة «بلاك ووتر») يحصلون على مبالغ مالية ضخمة لو كانوا أمريكيين أو يحصلون على وعود مؤكدة بمنح الجنسية الأمريكية لو كانوا مهاجرين أو لاجئين في الولايات المتحدة.

هناك عدة أسباب للجوء إلى المرتزقة، يبدو ظاهريا أن السبب الأول يكمن في النقص العددي في صفوف المجندين نتيجة أزمة ديموغرافية أو نقص سكاني أو توزيع القوات النظامية على جبهات واسعة مع حدود متشابكة تستلزم تثبيت قوات دون تحريكها إلى مناطق الصراع الجديدة.

أهم سبب في تجنيد المرتزقة هو الاطمئنان إلى أن هذه الفرق العسكرية قادرة على تنفيذ أعمال وحشية ضد الإنسانية من جرائم ومخالفات لا يستطيع الجندي العادي الذي تعلم في الجامعات ودرس الآداب والفنون والعلوم وحقوق الإنسان أن يقوم بها.

يمكن لخمسة آلاف من جنود شركات القتل القذرة القيام بما يعجز على القيام به خمسون ألفا من الجنود النظاميين.

في الحالة الروسية تم تجنيد عدد كبير من المجرمين للقيام بهذه المهام الصعبة من سياسة القتل والحرق والتخريب دون أي وازع أخلاقي أو تأنيب ضمير أو مراجعة إنسانية.

رصدت مصادر بحثية أن أكثر من نصف المجندين من السجون في شركات القتل الخاصة في روسيا لقوا حتفهم في أوكرانيا وهو أمر متوقع ولم يكن الدافع إليه إلا أوضاع السجون الروسية التي يضرب بها المثل في مستوى العنف والظلمات.

تتراوح المرتبات الشهرية بين 4 إلى 5 آلاف دولار، مع صرف مرتب شهر مكافأة فورية لتوقيع العقد، فضلا عن تعويض مالي كبير لعائلة القتيل. هذه الأرقام مع ذلك هزيلة مقارنة برواتب الحياة في أوروبا الغربية، لكنها مثيرة في روسيا ذات المرتبات المتواضعة رغم ثرواتها الكبرى.

هل يصلح كل مسجون للانخراط في أعمال المرتزقة؟

نحن أمام تاريخ للمسجونين في روسيا يرتبط بالمافيا الروسية التي تطورت في تسعينيات القرن العشرين بعد تفكك الاتحاد السوفيتي على يد زعماء من المافيا الإيطالية حتى أصبحت هي المتحكم الأول في الأمن (أو تهديد الأمن) في المدن الروسية الكبرى ولا سيما في موسكو وسان بطرسبرغ.

يعود الفضل إلى بوتين في الحد من حضور المافيا في البلاد واستعادة دور الأجهزة الحكومية من الجيش والشرطة، من دون التخلي تماما عن وظائف المافيا والعلاقات معها وقت الحاجة في الداخل والخارج.

الرئيس الروسي ليس رجل أعمال مثل برلسكوني أو ترامب وليس أستاذا جامعيا أو عالم اقتصاد أو مؤرخ أو عالم سياسة. هذا الرجل جاء من خلفية براغماتية عملياتية مخابراتية بحتة، يستطيع توظيف كل العناصر للرؤية الأوسع للحكم الشامل.

نعود للسؤال الأول: هل الاعتماد على المرتزقة راجع أساسا إلى نقص ديموغرافي في روسيا؟

الإجابة في جزء منها بكل تأكيد:  نعم !

 تعاني روسيا تناقصا ديموغرافيا لا يتناسب مع مساحتها الضخمة لكنها تعاني مما هو أكثر من التناقص الديموغرافي ألا وهو نزيف العقول المبدعة.

تعود أزمة نزيف العقول في روسيا لأكثر من 100 سنة مضت.

فحين قام النظام الشيوعي الذي كمم الأفواه أدرك المبدعون والمفكرون والنقاد أن لا حياة لهم في هذا البلد، ففروا إلى أوروبا والولايات المتحدة.

لعلنا نتذكر أن مصر استقبلت قبل قرن من  الزمن نحو 5000 مهاجر روسي فروا من صعود الجيش الأحمر والحكم الشيوعي والحرب الأهلية.

أعداد مضاعفة هاجرت إلى أوروبا وقامت بتغذية الفكر والنقد والعلم في تلك المجتمعات.

أوروبا تربح دوما من النظم الشمولية في روسيا، فخلال الحرب الباردة فر أيضا عدد من المبدعين في شتى المجالات.

وبعد تفكك الاتحاد السوفيتي هاجر إلى «إسرائيل» نحو مليون مواطن من أصل سوفيتي بعضهم يهود حقا وبعضهم زعم أنه من نسل يهودي.

في سنوات حكم بوتين التي تزيد عن عشرين عاما حدث تحسن كبير في مستوى الأمن والدخل مقارنة بفترة يلتسين، لكن ذلك لم يمنع الهجرة والفرار إلى أوروبا وإسرائيل والولايات المتحدة.

الحرب الأخيرة في أوكرانيا ساهمت أيضا في هجرة عدد آخر من الرافضين للحرب والمعترضين على تعديل بوتين للدستور والبقاء في الحكم مدى الحياة، يعتبر الكرملين هؤلاء الفارين خونة وأعداء للشعب وطابورا خامسا.

الأزمة الديموغرافية هي واحدة من أخطر الأزمات التي تعانيها روسيا عند المستوى العددي والنوعي. وهي أزمة تشبه أيضا أزمات عدة دول في المعسكر الأوروبي الذي يحاول أن يتكتل ليقف صفا واحدا أمام روسيا رغم التكلفة العالية لهذا التكتل والإنفاق المتزايد على الحرب في أوكرانيا.

ستنتهي الحرب الروسية في أوكرانيا إما إلى تصعيد إضافي واتساع رقعة المعارك وهو الاحتمال الأضعف وإما إلى تسوية وتجميد الموقف والدخول في مفاوضات طويلة الأجل.

لكن الذي سيبقى بعد كل ذلك هو أزمة ديموغرافية لن تتعافى منها روسيا بسهولة وستحتاج إلى عدة عقود لتعويض الخسائر العددية والنوعية.

هناك خطر آخر لا يقل خطورة وهو صعود الأعداد المطلقة والنسبية للقوميات غير الروسية في الدولة الروسية وهو ما يخلق أخطارا أخرى على الاستقرار العرقي والاجتماعي في روسيا المستقبل.

غير صحيح أن روسيا الحالية هي خطر على أوروبا والعالم، الصحيح أن الأكثر خطورة أن تصبح روسيا ديمقراطية منفتحة وتقبل بالتعددية.

 هذا النوع من روسيا هو خطر محدق على أوروبا، لأنه يعني أن روسيا ستكون قوية بشكل دائم وقادرة على تصحيح أخطائها بشكل مستمر وجاذبة للسكان والمهاجرين والعقول.

هذه هي روسيا التي سيخشاها الغرب أضعاف ما يخشون روسيا الحالية.

روسيا الحالية مفيدة جِدًا جدًا للغرب…وهي أفضل عدو يمكن تحمله مقارنة بقدرات روسيا العظمى التي يمكن أن تجعل منها قوة قطبية عالمية متعددة المحاور والمساهمات.

د. عاطف معتمد

أستاذ الجغرافيا الطبيعية بكلية الآداب جامعة القاهرة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى