مقالات

د. خالد فهمي يكتب: كأن القرآن يتنزل من جديد (20)

يقول الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه:

{مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍۢ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا ٱسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ}

[سورة الأنبياء 21/2]

هذه آية رحمة حقيقية وعملية سيقت مساق التحذير والنذارة والكشف والتذكير.

الآية بالغة الاتصال بما سبقها من تقرير غفلة الناس وإعراضهم مع قيام الدواعي إلى ضرورة اليقظة والانتباه؛ بسبب من اقتراب الحساب.

والآية في تبيينها لما سبقها تكشف عن طبيعة الغفلة وطبيعة الإعراض، وطبيعة الإعداد لمواجتهما.

الآية تتحدث عن تجدد التذكير، وحياطته لأحداث الزمان، وواقعاته، وهو المستفاد من استعمال الفعل المضارع ﴿يأتيهم﴾ الدال على التجدد والتمدد.

وهوالمعنى الذي يرشحه استعمال ﴿محدث﴾ أيا ما كان إعرابه جرا على النعت للفظ ﴿ذكر﴾ المجرور، أورفعا على النعت لمحل ﴿ذكر﴾ بما هو فاعل سبقته ﴿من﴾ أو نصبا على أنه حال مبين لصاحبه كاشف عن طبيعته.

و﴿محدث﴾ هنا دالة على التجدد، والتنزل وفقا لمناسبات الحوادث والوقائع والنوازل.

والآية تقرر أنهم يستمعون، ولكنهم لا ينتفعون بما كان من نعمة الاستماع بدليل جملة الحال ﴿وهم يلعبون﴾

وهذا الجزء من الآية نص بالغ السخرية والزراية بأهل الغفلة والإعراض من جهة التسوية بينهم وبين ما لا يعقل من حيث اشتراكهما معا في الاستماع من دون تحصيل النفع.

وجزء الآية الأخير يحذر تحذيرا بالغا من الرفاهية المطغية، والاشتغال بما لا يكون ذخرا في الآخرة.

﴿يلعبون﴾ في ختام الآية الكريمة إعلان صارخ لآثار اللهو المدمرة للإنسان والمجتمعات، وإعلان صارخ لآثار المتعة التي لا تدور في فلك المقاصد التي يريدها الله من خلقه، وإعلان صارخ للخضوع لفتنة الدنيا، والتفاخر بالدنيا، واللهو بالدنيا، ذلك أن الكتاب العزيز يعلنها صريحة﴿ اعلموا أنما هذه الحياة الدنيا لهو ولعب وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد اللعب﴾

اللعب في المعجم القرآني مذموم عى امتداد الكتاب، لأنه محاط بقرائن سياقية تجعله القاطرة الموصلة للعذاب والجحيم والحزن المقيم.

الآية في تركيبها تلوذ بما يعرف بالاستثناء المفرغ الذي يؤكد غفلتهم، وإعراضهم، لأنه لا يخرج طرفا من حكم طرف سابق.

والآية في التلقي المعاصر الراهن تفتح آفاقا جديدة يلزم منها التحرك نحوالعمل من أجل تشغيلها الحضاري وتنزيلها الواقعي.

في الآية دعوة إلى تطوير التعليم من طريق محاصرة الشواغل التي تصرف المتعلمين عن الإفادة مما يتعرضون له من برامج تعليمية، ومما يستمعون إليه من مقررات

ودعوة لمحاصرة التشويش بكل صنوفه، لقد دمغ الله المعرضين بأنهم يستمعون ولكنهم لا ينتفعون بما يستمعون إليه.

وهذا نص في وجوب مطاردة ما يشغل عن الاستماع النافع، وهو ما نلمس آثاره في تاريخ البيداجوجيا أو التعليم في حضارة المسلمين من اختيار مواقع المدارس التي كانت ترتبط في العادة بالمساجد تحقيقا للسكينة الروحية المعينة على التحصيل النافع، ومن توفير «الجراية» تخليصا للنفس من الانشغال بقوتها، وإيمانا بالقاعدة التي تقرر أن النفس إذا أحرزت قوتها اطمئنت!

والآية دعوة صريحة إلى التطبيقات المعينة على التذكير بتجديد عناصر الدروس من وقت لآخر، تنشيطا للنفوس وصناعة لليقظة، وإعانة على الاسترجاع، وتوطينا للمعرفة في النفس، وتحولها إلى مهارات وملكات.

والآية دعوة صريحة وحضارية للعناية بالمعلم والواعظ والإعلامي والكاتب؛ ذلك أن هؤلاء جميعا منضوون ضمن معنى «الذكر» عند من يرى ويتناول الذكر اسما للنبي صلى الله عليه وسلم، ذلك أن المعلمين والدعاة هم على الحقيقة ورثة الأنبياء الذين ينهضون بحكم طبائع أعمالهم بالبلاغ والتعليم.

الآية توشك أن تكون نصا صريحا في ضرورة تحديث البرامج والإعانة على إمداد العاملين في هذه المجالات بكل علم جديد يظهر، والآية ترسم طريقا للنجاة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى