بحوث ودراسات

د. تيسير التميمي يكتب: «… والله متم نوره ولو كره الكافرون»

حملة متجددة وممنهجة من الاستهزاء والسخرية بدين الإسلام وومقدساته: القرآن الكريم ورسول الله صلى الله عليه وسلم والحجاب وغيرها، رسوم وأفلام ومقالات تنطلق في الغرب وإساءات من كل نوع تتنامى وتتزايد مستهدفة هذا الدين الحنيف، تحركها أيدٍ خبيثة، فمؤخراً أقدم أحد الحاقدين على حرق نسخة من القرآن الكريم على مرأى ومسمع من العالم كله، بعد أخذ الإذن بذلك من الحكومة السويدية.

إن هذا العمل المشين وصمة عار لن تمحى عن جبين تلك الدولة وكل الدول التي تسير على شاكلتها بذريعة احترام حرية الرأي والتعبير، ويعكس الكراهية المستأصلة للإسلام في صدورهم ويثبت عجزهم عن القضاء عليه، بدليل أنه الدين الوحيد الذي يتعرض باستمرار للاعتداء على تعاليمه ومقدساته، فهي إذن حرب علنية عليه تستهدف تشويهه والنيل منه، بل هي حرب على الإنسانية بقيمها وأخلاقها وحضارتها، فالقرآن الكريم كتاب الله أنزله على رسوله المبعوث بالإسلام لجميع الناس، قال تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} سبأ 28.

إنها ليست حرية تعبير عن الرأي، بل هي وقاحة قبيحة تتجاوز الشعارات التي يتغنَّوْن بها كالدعوة للحوار واحترام الرأي الآخر وتجنب العنف أو الاستخفاف بثقافته، هي وقاحة تتنصل من كل أدب وخلق أثناء التعامل مع المخالفين، هي عنصرية مقيتة تتجلىى في أبشع صورها بالإصرار على مصادرة حق الآخر بالتعبير عن فكره بل عن وجوده وهويته، بل والافتراء عليه واتهامه بالإرهاب.     

وإن كان هؤلاء المعتدون وغيرهم لا يعرفون قدر كتاب الله عز وجل ومكانته فإن الأمة تعرفها، وتعرف واجبها ومسؤولياتها في حمايته والدفاع عنه، فهو كتاب الله المعظَّم وكلام الله الذي إذا لامس القلوب والأرواح هزّ كيانها ونقلها إلى عالم الإيمان الثابت واليقين الراسخ بالله ودينه، قال تعالى {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ…} الحشر 21، والقرآن أيضاً هو مصدر عز وكرامة هذه الأمة، لذا يجب ألاَّ تمر هذه الإساءات هكذا دون حساب أو عقاب، فينبغي على أمة الإسلام أن تستنفر وتستنهض همم أبنائها لمواجهة هذه الحرب المعلنة على الدين الإسلامي وعلى أتباعه المؤمنين، ولمحاسبة المتورطين في هذه الجريمة النكراء، ولْيعلمْ أبناؤها أن الشجب والاستنكار والإدانة أصبحت مصطلحات فارغة لا تردع المجرمين الذين سولت لهم أنفسهم الاعتداء على كتاب الله، فالعقاب يجب أن يكون أشد وطأة حتى لا يتجرأ الآخرون على انتهاك المقدسات الإسلامية وتدنيسها.

فمسؤولية الأمة الإسلامية هي تَحمُّل دورها نحو كتاب الله في حِفْظه والحفاظ عليه وفق المنظور الشرعي، فلا خير فيها إن لم تُعظِّم مقدَّساتها ولا فلاح لأبنائها أن لم يُعظِّموا شعائرَ الله وكتابه، ولا وزن عند الله لعلمائها إن لم يضْطَلعوا بدورهم ومسؤولياتهم ببيان الأحكام في مرتكبي هذه الجرائم الشنعاء وتنفيذها حسب الأصول الإسلامية بعيداً عن الفردية والمزاجية والغوغائية،

لقد علم المسلمون من قديم أن دينهم مستهدف، حدث هذا قبل أربعة عشر قرناً وأكثر، عاشوه ورأوه بأعينهم، وقد سجل القرآن وعرض كثيراً من هذه الاعتداءات الساخرة والمسيئة، وترك بذلك المجال مفتوحاً للأجيال المتلاحقة أن تقرأها وتسمعها وتعِيَها وتأخذ منها الدروس، فأين المستهزئين ؟ لقد طوى التاريخ صفحتهم ومحى ذكرهم، واستأصل شأفتهم عن آخرهم فلم تبقَ لهم باقية، حتى كأنهم لم يرَوْا نور الحياة ولم يتنسموا عبيرها، ولم تطأ أقدامهم ثرى الأرض، وهذا هو الذي يحدث دوماً عقب كل حملة من حملات الإساءة لدين الله أو رسوله صلى الله عليه وسلم أو كتابه ! تذوب الحملة وأربابها، ويظهر الحق وتنفتح القلوب له فيزداد الداخلون في دين الله أفواجاً، ولن تكون عاقبة المسيئين في زماننا بأقل من عاقبة أولئك القُدامى، فسيزولون وستسقط أفكارهم وإساءاتهم، فحتى أعتى الجبابرة لا يطفئ نور الله، قال تعالى {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} الصف 8.

ومهما كانت الدوافع وراء هذه الحملة الممنهجة التي لا تتوقف فأبرزها تقصير المسلمين حكومات وشعوباً وأفراداً في تصويب الفهم المغلوط للإسلام، فلم يبذلوا الجهد الكافي لتوضيح صورة الإسلام المشرقة وتجلية مفاهيمه البناءة، وأيضاً عدم تطبيقهم أحكامه والتزام تعاليمه في تعاملهم وسلوكهم، فلم يترجموا نصوصه إلى واقع إيجابي مشهود للآخرين، فأسهموا في الإساءة إليه وتشويه صورته بممارساتهم المخالفة للإسلام ونصوصه القطعية، ولعلَّ من أقوى الأسباب ضعف أمة الإسلام وانسياقها وراء القوى العالمية ظناً منها أنها بذلك تحافظ على وجودها، وما علمت أنها بذلك قضت على وجودها وكيانها فهُزِمَتْ شر هزيمة حتى أصبحت تابعة لغيرها ذليلة أمام من حَسبتهم أعزة والحقيقة أنها أضاعت عزتها الحقيقية أمام الأذلة الحقيقيين، قال تعالى {مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً…} فاطر 8، فالعزة حتماً لا تكون إلا لله وحده ولمن تبع دينه ورسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى {… وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} المنافقون 8.

فلا بد للأمة والحالة هذه ألا تكتفي بالغضب العارم الذي نراه وربما يثلج صدورنا، بل عليها ترجمته إلى خطة وبرنامج عمل في إطار إيجابي يبدأ بتمثُل أحكام الله عز وجل وتعاليمه، فهذا أفضل أسلوب نقنع به غير المسلمين بعظمة هذا الدين وسمو رسالته الإنسانية الشاملة، فاستهداف دين الله وكتابه أمر خطير لانطلاقه من عنصرية بغيضة وحقد مقيت وتمييز عنصري مرفوض، مما يتطلب منا دوراً مضاعفاً في التصدي الناضج الحكيم لهذه الحملات بما ينسجم مع أحكام دين الله وروح نصوصه، ومن أبرز ملامح ذلك:

* يجب علينا أن ندافع عن عقيدتنا وقرآننا وكل مقدساتنا، لكن ليس بخطوات عمياء عشوائية بل بردود متعقلة ومنضبطة بعيداً عن التصرفات غير اللائقة والتي تخالف سنة نبينا صلى الله عليه وسلم أو المنطلقة من الغضب المؤقت. فردود الأفعال العنيفة والمتطرفة مدانة تسيء إلى الإسلام، وتؤدي إلى انعكاسات سلبية تضرّ بصورته لأن فيها غالباً عدواناً على من لا يد له في ارتكاب هذه الإساءات، وهي عنوان الضعف لأنها ستؤكد ادعاءات الإعلام المعادي للمسلمين، وستشكل ذريعة ومبرراً لإجراءات مضادة وأكثر تعسفاً ضدهم، وقد تتحول إلى مشاعر معادية له لا يمكن محاكمتها، ونحن في غنى عن استعداء بعض الشعوب التي لم تكن في يوم عدوة لنا ولديننا.

* ولنا أيضاً مقاطعة المنتجات، فقد أثبتت المقاطعة وخصوصاً الاقتصادية أنها سلاح قوي ومؤثر ومؤلم. إن المقاطعة هي من أهم الوسائل التي نملكها لكف الرعاع عن الإساءة الدائمة لديننا وقيمنا ورموزنا، وحيث إن الدفاع عن ديننا واجب فلتكن التضحية ببضاعتنا من المال بهذه النية من وسائل هذا الدفاع المشروع، ففيها تحذير لمن لا ينتهج سياسة منصفة أو لا تتخذ مواقف عادلة تجاه قضايانا، وفيها رفع معنويات الشعوب بأنها استطاعت أن تقدم شيئاً.

* ويمكننا في الوقت ذاته استخدام وسائل الضغط لإصدار قوانين دولية تلاحق كل من يسيء بأي شكل من الأشكال إلى ديننا ورموزنا ومقدساتنا، وبالأخص أن هناك سوابق لإصدار مثل هذه القوانين، ففي سنة 1996م حكمت المحكمة الأوروبية بعدم شرعية عرض فيلم يسيء لسيدنا عيسى عليه السلام، كما أن الغرب يلاحق من يتبنى معاداة السامية (ويقصد بها اليهود ولا أدري لماذا استبعد العرب والمسلمون منه مع أنهم ساميون)، وتوجد تشريعات وعقوبات لا يسقطها التقادم ضد من ينكر الهولوكوست (لدرجة أن مفكراً بريطانياً حوكم لإبداء رأيه فيها بعد مرور أكثر من خمسة عشر عاماً) وهذا يدل على أن للغرب مقدسات، وأنه ملزم وفق القانون باحترام مقدسات الآخرين.

* وعلينا مناقشة مبدأ حرية الصحافة وعدم التسليم المطلق بها، ووضع حدود لها بحيث تقف عند حرياتنا وحقوقنا بحيث لا تمس بمعتقداتنا وفكرنا، فحرية التعبير لا تبرر الطعن في الدين الإسلامي ورموزه ومقدساته، والشعور بالمسئولية يجب أن يلازم التمسك بحرية الصحافة بعيداً عن ازدواجية المعايير التي يستخدمها الغرب في التعامل مع قضية حرية التعبير، فالمسلمون يشعرون بأن حرية التعبير في دول الغرب تعني الإساءة إلى دينهم دون غيرهم، وأن الإسلام أصبح القاعدة المستباحة في العالم.

* مطالبة المجتمع الدولي والأمم المتحدة بالتصدي لسياسة الكيل بمكيالين التي تمارسها الدول الكبرى بضغطها على الشعوب المدافعة عن حريتها واستقلالها وحقوقها المغتصبة واتهامها بالإرهاب، وبضغطها على وسائل الإعلام المدافعة عن حقوق شعوبها وأوطانها واتهامها بالتحريض على العنف، وإن نظرة خاطفة لموقف المجتمع الدولي من الحرب بين روسيا وأوكرانيا تعكس هذه الازدواجية مقارنة بموقفها مما يجري على أرض فلسطين المحتلة من عدوان غاشم على أبناء شعبها تقوم به سلطات الاحتلال الإسرائيلية.

وأخيراً فإنني أؤكد مجدداً أن ساحة العقيدة وأصول الإسلام وأركانه منطقةٌ حمراء وحمى محرَّمٌ لا نسمح أبداً بالاقتراب منه، فالإساءات البالغة لرموزنا الدينية المقدسة تمثل خرقاً للقوانين الدولية والأعراف العالمية، وهي أيضاً سلوك مفضٍ إلى توسيع الهُوَّة بين أتباع الديانات السماوية، ودليل غيظ الأعداء الذي نستشعره في قلوبهم ونسمعه من أفواههم، ووسيلتهم الحاقدة لتشويه الصورة المشرقة للإسلام لدى شعوب العالم، ودليل العجز الذي أصابهم من ثبات قدمه وقوة حجته وشموخ رايته وانتشار دعوته، وتأتي في سياق الحملة الحاقدة عليه، والرامية إلى تكريس فكر العولمة وفرض النظام الكوني الأوحد على الإنسانية جميعاً.

فهذا التشويه ليس نابعاً من فكر أو قراءة موضوعية لدين الإسلام كتاباً وفقهاً، وإنما هو تشويه متعمد يصدر عن أحد نوعين من الناس: إما جاهل بدين الله وحقائقه، وإما حاقد مأجور يعمل لحساب أطراف يهمها إبقاء فتيل النزاعات والخلافات العقائدية مشتعلاً لإذكاء نار الفتن الطائفية والدينية.

ولكنني أقول: رُبَّ ضارة نافعة، فالإساءة لكتاب الله تعالى تفتح الآفاق واسعة أمام الناس للاطلاع عليه وقراءته ومن ثَمَّ الإيمان به، قال تعالى {… لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ…} النور 11، فإننا نعلم علم اليقين أن تزايد أعداد الداخلين في دين الله والذين سيؤمنون بالقرآن الكريم وبمنزّله على رسوله صلى الله عليه وسلم من الدول الغربية سيفاجئون المسيئين وسيردون كيدهم إلى نحورهم، والإحصاءات العالمية تؤكد ذلك، فلْيعلموا أن معركتهم مع الله ومع دينه خاسرة لا نصر لهم فيها أبداً وعليهم ألاَّ يغتروا بالظواهر فالعين ترى السراب تحسبه ماء.

د. تيسير التميمي

قاضي قضاة فلسطين رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً أمين سر الهيئة الإسلامية العليا بالقدس

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى