بحوث ودراسات

جمال سلطان يكتب: أهل السنة والجماعة.. مقالة في النشأة والظهور

هذا الكتاب من تلك النوعية النادرة من الأبحاث الصبورة التي غابت عن المكتبة العربية منذ أواسط القرن العشرين الميلادي، حيث انتهت موجة أبحاث شيوخ الاستشراق المعاصر وأئمته: جولد زيهر، ومونتجمري وات، وبروكلمان، وغيرهم، فالجهد المبذول في بحث «بشير نافع» يندر أن تجده في أي بحث عربي يتعلق بتاريخ الاجتماع السياسي والديني في العالم الإسلامي بهذا الاستقصاء والشمول والدقة في اعتماد مصادره، والتي وصل إثبات عناوينها وأسماء مؤلفيها إلى حوالي خمسة وثلاثين صفحة في نهاية الكتاب.

لذلك فكتاب «أهل السنة والجماعة.. مقالة في النشأة والظهور» من الكتب التي لا تقرأها ثم تحتفظ بها في خزانة مكتبتك، وإنما ستحتاج إلى وضعه بصفة دائمة على مقربة من يدك، لأنك ستحتاج إلى العودة إليه بصفة مستمرة كلما عرضت لك فكرة أو حادثة أو فرقة أو إمارة أو خلافة أو شخصا أو معركة على امتداد التاريخ الإسلامي منذ القرن الأول وحتى نهاية القرن الخامس الهجري.

يتعلق بحث «بشير نافع» برصد ميلاد تيار «أهل السنة والجماعة» في تاريخ الاجتماع الإسلامي، وهو يسجل منذ البداية ملاحظة شديدة الأهمية وهي أن أهل السنة والجماعة لم يمثلوا فرقة من الفرق، أو طائفة من الطوائف، وإنما «تيار الإسلام الرئيس وتعبيره الأهم والأكبر، وسواد المسلمين الأعظم».

في مدخل بحثه يعالج المؤلف تشككات ما بعد الحداثيين وما بعد البنيويين في إمكانية التعرف على الحقيقة التاريخية، ووصف توجههم ـ بحق ـ بأنه نوع من العدمية التأريخية، ونقضها نقضا علميا رصينا، قبل أن يباغتها بالسؤال عن «الهولوكوست» وهل يمكن أن تنطبق عليه أيضا فرضية أن «السعي إلى التعرف على الحقيقة التاريخية هو ضرب من العبث»؟!، وهو سؤال قاصم للظهر خاصة في السياق الغربي الحالي، ليخلص بشير إلى تحديد مفهوم «أهل السنة والجماعة» فيقول: «ليسوا أولئك العلماء الذين وصفوا منذ نهاية القرن الهجري الأول وبداية الثاني بأصحاب سنة وجماعة، أو عموم المسلمين الذين اتبعوا هؤلاء العلماء في القرون التالية وباتوا يمثلون سواد المسلمين الأعظم، ولكن أيضا مجموعة الأقوال والمعتقدات والمواقف والأعمال التي صدرت عن أهل السنة والجماعة وصنعت هويتهم، علماء أو زهادا أو أدباء أو عامة أو قادة أو حكاما أو أمراء» وينفي هنا رؤية «ميشيل فوكو» عن أن الخطاب السني كان تعبيرا عن علاقات قوة، مستندة إلى سلطة سياسية، وهو ما فنده باقتدار بعد ذلك بتفاصيل مهمة جدا تكشف أن الاجتماع السني كان أقوى من مقام الخليفة نفسه، وكان يجبره على التماهي مع «السواد الأعظم» من المسلمين، باستثناءات قليلة كما حدث مع الخليفة العباسي المأمون.

قسم المؤلف كتابه على تمهيد وثمانية فصول، أولها مقدمة نظرية لبحثه، وثامنها خاتمة أو ما أسماها «على سبيل الخاتمة» لخص فيها رؤيته وانطباعاته والسياقات التاريخية التي تجلت من هذا الرصد الواسع، وباقي الفصول لمادة الكتاب الأساسية.

يبسط بشير نافع مساحة واسعة من مدخل بحثه لاستعراض نشأة مصطلح «السنة والجماعة» منذ نهاية ما أسماه «خلافة المدينة» -الراشدون الأربعة- وحتى بدايات القرن الهجري الثاني، ويجلي سبب ظهور المصطلح لأسباب تعود إلى الفتنة الكبرى ثم توالي حركات الخروج والثورة على الحكم الأموي، من الحسين بن علي رضوان الله عليه ثم عبد الله بن الزبير وزيد بن علي والمختار الثقفي وعبد الرحمن ابن الأشعث وغيرهم، وما تولد عن هذه الحركات من انقسامات هددت «وجود» الأمة ذاتها، ووحدتها، واستنزفت الكثير من الدماء -بما فيها دماء علماء وصحابة وتابعين- الأمر الذي جعل فكرة «الجماعة» حاضرة وأولوية ملحة، وكذلك ما تولد عن هذه التصدعات من أفكار توالدت وتكاثرت ثم انتشر الغلو فيها الأمر الذي استدعى العودة إلى «سنة النبي» الكريم كمرجعية حافظة لنهجه وهديه، وبعد أن استعرض المؤلف أسماء رموز هذا الميلاد لنزعة حماية «الجماعة» و«السنة» يخلص إلى القول بأن «أهل السنة والجماعة لم ينشأوا من كتلة عقدية أو سياسية مصمتة، صحيح أن مشتركات عظمى جمعت بين علماء أهل السنة المبكرين، ولكن الصحيح أيضا أن مواقفهم السياسية وتصوراتهم لمسائل الدين الكبرى، وسبل دفاعهم عن هذه المواقف والتصورات، لم تخل من قدر من التنوع والاختلاف، وهذا ما أوقع شيئا من الاضطراب في تصنيفات كتب الفرق والسير الإسلامية لكثير من هؤلاء العلماء».

معمار البحث قام على رصد ميلاد وتطور حضور أهل السنة والجماعة في أربعة فضاءات عقد لكل منهم فصلا من الكتاب: الفضاء العقدي الكلامي، والفضاء الفقهي العلمائي، والفضاء الصوفي، والفضاء السياسي في مرحلة الدولة المركزية ومرحلة ضعف الدولة وظهور إمارات ودويلات على أطرافها أو جوانبها.

في الفصل الثالث، يرى المؤلف أن أهل السنة والجماعة لم يقتحموا مجال «علم الكلام» -الجدل العقلي في قضايا الاعتقاد- إلا مضطرين، خاصة بعد ما جرى في محنة خلق القرآن والاستعلاء الذي مارسته بعض الفرق مستعينة بقوة السلطان، وهو ما سمح بظهور أربعة من أعمدة الكلام عند أهل السنة والجماعة في القرن الرابع الهجري: أبو الحسن الأشعري، وأبو جعفر الطحاوي، وأبو منصور الماتريدي، وأبو القاسم السمرقندي، حيث يفرد لكل منهم مساحة كافية من الصفحات المترعة بالنقول والمراجع، أيضا يلاحظ المؤلف أن مدرسة الأشعري الكلامية امتدت عبر مذاهب فقهية سنية عديدة، خاصة الشافعية والمالكية، ورصد جهود عدد من تلاميذه مثل: أبي بكر الباقلاني، وابن فورك، وأبي أسحاق الاسفراييني، والقشيري، وإمام الحرمين الجويني، وصولا إلى أبي حامد الغزالي، مستعرضا مؤلفاتهم الكلامية ونصوصا وافية تعبر عن المعالم الأساسية لطروحاتهم وأفكارهم.

ويلمح المؤلف إلى أن الصعود والانتشار الواسع لمدرسة المتكلمين الكبار مثل الأشعري والماتريدي، لم يخصم من انتشار «مدرسة الحديث» ودفاعهم عن رؤيتهم لتأصيل قواعد الاعتقاد مستندين إلى نصوص القرآن والسنة دون احتياج لعلم الكلام، واستعرض هنا أعمال نماذج لهذه المدرسة مثل ابن قتيبة الدينوري، وابن خزيمة، وأبي بكر الخلال، وابن بطة، واللالكائي.

ويشير الباحث إلى أنه منذ انحسار حركة الاعتزال في القرن الخامس الهجري، بسطت الأشعرية والماتريدية هيمنتها على مراكز التعليم السني الرئيسية في فاس والقيروان والقاهرة وإسطنبول ومدن الهند ووسط آسيا والأناضول، ولم يتوقف تمددها إلا بظهور القطب الحنبلي الكبير شيخ الإسلام ابن تيمية في القرن الثامن، وعلى الرغم من الظهور الجديد لمدرسة الحديث عبر التيار السلفي الوهابي في الجزيرة العربية في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، إلا أن الغلبة في صفوف علماء أهل السنة والجماعة ظلت للأشعرية والماتريدية، غير أن المؤلف يؤكد أنه “من الصعب، على صعيد المذاهب الكلامية، القول إن اعتقادا إسلاميا ما كان عقلانيا خالصا، بالمعنى الفلسفي للعقلانية لكافة المتكلمين المسلمين، بما في ذلك المعتزلة، ظل الإيمان بالوحي والغيب واليوم الآخر أصلا لا حياد عنه”.

في الفصل الثاني، يستعرض المؤلف نشأة المدارس الفقهية عند أهل السنة، وفي تنبيه لطيف، يشير إلى أن المذاهب الفقهية كانت جغرافية في القرن الأول الهجري، حسب وجود المميزين في فقه الشريعة من الصحابة أو التابعين، فكانت هناك مدرسة المدينة، ومدرسة الكوفة، ومدرسة البصرة، والمدرسة المكية، ثم مدرسة دمشق والمدرسة المصرية، ويستعرض المؤلف أعلام تلك المدارس الفقهية في كل مدينة من حواضر الإسلام وقتها، من صحابة وتابعين وتابعيهم وحتى خلفاء عرفوا بالفقه مثل عبد الملك بن مروان، وعمر بن عبد العزيز.

ثم يرصد المؤلف بصبر ودأب تشكل المذاهب الفقهية الكبرى، مشيرا إلى أنها كانت أكثر من الأربعة المشهورين : مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل، فقد كان هناك مذهب للأوزاعي والليث بن سعد وسفيان الثوري وداوود الظاهري وابن جرير الطبري، غير أنهم تلاشوا عبر حقب التاريخ التالية، وبقيت المدارس الأربعة الكبرى ممثلة لروح التشريع الإسلامي، ويلفت المؤلف إلى أن ظهور مدرسة الرأي في الفقه الإسلامي، وتبلورها عبر مدرسة أبي حنيفة، يعود بالأساس إلى اتساع رقعة الفتوحات الإسلامية ووصولها إلى الهند شرقا، وتوالي حادثات ومواقف وصيغ اجتماعية لم يعهد المسلمون مثلها، ولم يجد الفقهاء نصوصا تقابلها أو تكفي وحدها لتفسيرها، فاستدعى الأمر إعمال القياس والمصالح المرسلة وغيرها، ويرصد المؤلف أن المذاهب الفقهية السنية الأربعة الكبرى لم تشكل قطيعة علمية مع ما قبلها، بل كانت بلورة لميراث علمي سابق وتراكم واتصال للخبرة الفقهية، وهو في أثناء ذلك يشتبك في جدل مع مراجع استشراقية مختلفة كانت تفرض رؤاها الأيديولوجية ـ قسرا ـ على التطور التاريخي لمدارس الفقه السنية.

وعلى الرغم من التباين في اجتهادات المذاهب السنية الأربعة إلا أنه ـ بحسب المؤلف ـ “باستناد الفقه إلى حجية الكتاب وسنة النبي، وضرورة اللجوء إلى قدر من الرأي المنضبط، اكتسبت المذاهب الفقهية مسوغ الشرعية وأداة الاعتدال، راسمة بذلك صورة سواد المسلمين الأعظم، أهل السنة والجماعة، لأنفسهم، ومرسية أسس اجماعهم وحدود هذا الإجماع في الوقت نفسه، وبذلك تماهت الهوية السنية بالهوية المذهبية للمذاهب الأربعة”

في الفصل الخامس من كتاب بشير نافع (أهل السنة والجماعة.. مقالة في النشأة والظهور) وهو الفصل الذي خصصه المؤلف لرصد حركة التصوف وموقعها من تيار أهل السنة والجماعة، يشير إلى أن التصوف مر بمرحلتين، مرحلة الزهد التي عرفت في القرنين الأول والثاني من خلال عدد من أصحاب النبي وكبار التابعين، مثل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وأبي ذر الغفاري، ثم الحسن البصري وغيرهم، ثم مرحلة التصوف التي هي نمط من التفكير العرفاني وصولا إلى القرن الرابع والخامس الهجري الذي شهد تبلور تيار التصوف وانتشاره ونشأة مقار له في العراق وخراسان، زوايا وخانقاه ورباطات، معتبرا أن مرحلة الزهد كان يغلب عليها نزعة الخوف من الله والتشاؤم تجاه الحياة، بينما مرحلة التصوف غلبت عليها نزعة الاتصال والمحبة والتفاؤل، حسب قوله، ويعرض لبواكير رواد التصوف من أهل السنة أمثال إبراهيم بن أدهم والفضيل بن عياض ومعروف الكرخي وحاتم الأصم، وصولا إلى سهل التستري، والحكيم الترمذي.

وبشير نافع بميله العلمي الأكاديمي إلى وضع الأفكار في سياق تاريخ اجتماعي سياسي، يبرز لنا رؤيتين بالغتي الأهمية، الأولى أن العقوبات التي وقعت لبعض غلاة المتصوفة مثل الحلاج وغيلان الدمشقي، لم تكن فقط للهرطقة والأفكار الشاذة التي حاولوا نشرها، وإنما أيضا لثبوت اتصالاتهم بحركات ثورية خارجة على الدولة، مثل القرامطة، كما يعرض لوقائع محاكماتهم التي امتدت أحيانا لشهور طويلة، واستماع الحجج والردود والشهادات وشهود النفي والوثائق من مراسلات وخلافه، وهي ضمانات للعدالة تفتقدها محاكم عربية في عصرنا الحالي !، كما أن واقعة مقتل الحلاج لم توقف انتشار التصوف المعتدل بفعل ميراث الجنيد وأصحابه.

الملاحظة الأخرى التي توقف عندها المؤلف باقتدار، هي أن ظاهرة التصوف لم تتبلور وتتسع في العالم الإسلامي إلا في القرنين الرابع والخامس الهجريين، حيث استقرت أمور الخلافة، وازدهرت الحياة، وانتشرت الفنون والصنائع والرفاه ورغد العيش، والذي وصل لشيء من التهتك، الأمر الذي ظهرت معه موجات التصوف كرد فعل على هذا الإسراف في الملذات.

الملاحظة الثالثة أن التصوف لم يمثل طائفة دينية منفصلة، بل كان حالة روحية تتغلغل في المذاهب السنية المختلفة، فكان هناك شافعية ومالكية وحتى حنابلة من مشاهير التصوف، ويقول المؤلف مؤكدا ملاحظته : “الحقيقة أنه لا أحد من منتقدي التصوف، ولا حتى ابن تيمية نفسه، ذهب إلى رفض التصوف بكليته، لم يتردد ابن تيمية مثلا في الإشادة بأبي القاسم الجنيد، وبشر الحافي، وشفيق البلخي، وعمر بن عثمان المكي، وسهل التستري، وأبي طالب المكي، إضافة إلى الحنبلي الكبير عبد القادر الجيلاني”

في الفصل السادس، الذي عقده المؤلف للسلطة السياسية وخصصه لمرحلة قوة الحكم المركزي لدولة الخلافة، وهو يبحر بمهارة في فترة الحكم الأموي، شديدة الحساسية، كثيرة الارتباك والفتن والخروج والهرج والقتل، ويستعرض الكثير من حركات الخروج، مثل المختار الثقفي، وابن الأشعب، والحسين رضوان الله عليه، وزيد بن علي، وعبد الله بن الزبير، لكي يخلص من ذلك إلى أن أهل السنة لم يكونوا متماهين مع السلطة السياسية دائما، بل كثير منهم ثاروا عليها، وقتل منهم نفر كثير، وقد رصد المؤلف أسماء كثير منهم وسيرتهم، غير أن توالي الثورات والفتن وتهديدها لوحدة الأمة والوجود الإسلامي نفسه في قرنه الأولى والخوف على بقاء الإسلام دفع علماء أهل السنة إلى تبني خيار تفضيل “الجماعة” كأولوية على الخروج حتى مع وجود شيء من المظالم، بالنظر إلى الحصاد الدموي المهول لحركات الخروج المسلح المتتالية.

وبقدر ما انتقد المؤلف الدولة الأموية في مواقف، مثل منح يزيد بن معاوية ولاية العهد، إلا أنه أنصفها في مواطن أخرى، وعرض بشكل دقيق أفضال الدولة الأموية في حفظ وحدة الأمة وانتشار الإسلام في ربوع الأرض واتساع حركة الفتوح وحماية الثغور، كما أنه كان من بين خلفائها من عرف بالعلم والدين مثل عبد الملك بن مروان، الذي أشار عبد الله بن عمر إلى أنه وريثه في علم الشريعة، إضافة إلى ما اشتهر من عدل الخليفة عمر بن عبد العزيز، غير أن الصواب أخطأه عندما عرض لموقف معاوية من شرط “قرشية” الخليفة، ونزع إلى أنها اصطفاء “قبائلي/عروبي” احتج به معاوية، والخطأ هنا أنه اعتمد على “رضوان السيد” ونقل عنه، ومشكلة رضوان أنه متأثر بالاستشراق الألماني إلى درجة كبيرة فيبدو أحيانا غريبا على روح التشريع الإسلامي، وشرط القرشية منصوص عليه في أحاديث عديدة روتها كتب الصحاح وكانت متداولة باستفاضة منذ القرن الهجري الأول بين أصحاب النبي.

ثم يستعرض المرحلة العباسية، بعد نجاح ثورة الخراسانيين، وكيف استفادوا من كل مكونات الغضب تجاه الأمويين ـ خاصة الموالين لآل بيت النبي ـ وضعف الدولة الأموية في أواخرها، ثم يعرض لأسباب قلق العباسيين من طموحات أنصار “آل البيت”، بعد استتباب أمر الملك لهم، وهو ما انعكس على الخطاب الديني المؤسس لشرعية خلافة العباسيين، والتأكيد على أن “العباس” هو الأولى بها وظهور حذري عباسي من النشاطات الشيعية، والمؤلف يستعرض الحراك العلمي والاجتماعي والسياسي خلال فترة الحكم العباسي الطويلة، لكي يخلص إلى أن انتشار تيار أهل السنة والجماعة لم يكن له أي صلة بالسلطة السياسة ودعمها، بل كثيرا ما تصادمت السلطة بأهل السنة، وهنا يتوقف طويلا أمام مرحلة “المحنة”، محنة خلق القرآن، والتي سيطرت على عقل الخليفة المأمون ثم المعتصم من بعده ثم الواثق، وكيف طورد أهل السنة وحبس علماؤهم، ونكل بهم، وخاصة أحمد بن حنبل، لإجبارهم على الخضوع لاعتقاد الخليفة ـ المتأثر بفكر المعتزلة ـ بخلق القرآن، ومع ذلك انتصر الصمود العلمائي والشعبي السني أمام تلك الموجة العنيفة، واضطر الخليفة المتوكل ـ بعد ثلاث دورات للخلافة ـ إلى إلغاء محاكمات المحنة التي قادها سلفه، وحاول التقرب من أهل السنة والتودد إليهم باعتبارهم سواد المسلمين الأعظم في العراق، حاضنة الخلافة، وغيرها من حواضر المسلمين، ثم يخلص من ذلك إلى القول : “إن ما عزز من ثقل العلماء السنة ونفوذهم في عقود ما بعد المحنة لم يكن التأييد والدعم الرسميين، بل قابلية الحاضنة السنية المسبقة لاستيعاب قطاعات كبيرة من المحدثين والفقهاء والزهاد والمتصوفة، إضافة إلى تقدم متكلمين كبار للدفاع عن مفاهيم أهل السنة والجماعة واعتقادهم”

في الفصل السابع الذي خصصه لمرحلة ضعف السلطة المركزية لدولة الخلافة، استعرض فيه باستقصاء مضن، الدول والسلطنات والممالك والإمارات التي نشأت في شرق العالم الإسلامي وغربه، مستغلة ضعف السلطة المركزية، وعدم قدرتها على إخضاع أو إدارة مساحات ضخمة من البلدان من الهند شرقا إلى المغرب الأقصى غربا، عرض الباحث لنشأة البويهيين في خراسان، ونشأة الفاطميين في شمال افريقيا ثم فتحهم مصر والسيطرة عليها، وإرسال جيوشهم للشام وسيطرتهم فترات على حلب، وظهور إمارات للقرامطة، ونشأة إمارات صغيرة من الانقسامات الشيعية المتوالية، ودول للحمدانيين في حلب والإخشيديين والطولونيين في مصر والقرامطة في شرق الجزيرة العربية، ويضع المؤلف يدنا على الجذر التاريخي لانتشار طوائف مثل الإسماعيلية والبهرة والإباضية والدروز والعلويون في مناطق جغرافية بعينها في العالم الإسلامي ما زالت باقية فيها حتى اليوم.

من طريف ما أشار إليه المؤلف أن الفاطميين عندما فتحوا مصر أنشأ قائدهم “جوهر الصقلبي” عاصمة جديدة ـ غير الفسطاط ـ أسماها “القاهرة”، يقول المؤلف : “أن أهل مصر كانت غالبيتهم من الشافعية والمالكية، وأخفق الفاطميون في إجبار عموم أهل مصر على التحول للمذهب الإسماعيلي، فأنشأوا مدينة القاهرة،وقصد بالقاهرة أن تكون فضاء أسماعيليا خالصا، وقلعة خاصة للحكم والطبقة الحاكمة، وأن تعزل عن سكان مصر، مسلمين كانوا أو غير ذلك”، وهو ما يذكرنا بحديث أهل مصر اليوم عن “العاصمة الإدارية الجديدة” !!، ولم يسمح لأهل مصر بالسكن في القاهرة إلا بعد تولي الوزير بدر الجمالي، حيث نشر الاحتفال ببعض المواسم الشيعية، في حين بقيت الإسكندرية ـ البعيدة نسبيا ـ عصية على هذا التأثير.

يتوقف المؤلف طويلا عند الدور التاريخي المهم للغاية الذي قام به “الغزنويون” وسط آسيا في حماية ظهر دولة الخلافة العباسية أمام طوفان الانقسامات وفسيسفاء الإمارات المتوالدة، كذلك المرحلة التي بسط فيها “السلاجقة” سيطرتهم على المساحة الأكبر من العالم الإسلامي، محتفظين بولائهم الروحي للخليفة العباسي، ويعتبر السلاجقة هم الحدث الأهم والأبرز الذي حمى الخلافة العباسية ومنحها قرونا من البقاء رغم هشاشة سلطة الخليفة ورمزيته، وهم الذين ساهموا في تأسيس المدارس العلمية على يد وزيرهم “نظام الملك” ونشروا الأمن والأمان والرخاء أزمنة طويلة في ربوع الدولة.

وينتهي المؤلف في هذا الفصل إلى أن نهاية القرن الرابع الهجري وبداية القرن الخامس، شهدت الانتصار النهائي والحاسم لتيار أهل السنة والجماعة في عموم العالم الإسلامي من مشرقه لمغربه ليكون المعبر الحقيقي عن “روح الإسلام” وسواده الأعظم.

يختم بشير نافع بحثه الرائع بما أسماه “على سبيل الخاتمة”، يستجمع فيه الملامح الرئيسية التي خلص إليها في بحثه، ويؤكد على أن أهل السنة والجماعة لم يكونوا أبدا صنيعة سلطة سياسية، كما أنهم لم يتصرفوا كطائفة أبدا، “لم يطلقوا خطابا تبشيريا، لم يبعثوا دعاتهم في الآفاق لحشد الأتباع، ظهورهم لم يكن مدينا لطائفة تؤمن بحقها الإلهي في الإمامة، أو لفرقة عقدية تؤمن باصطفائها وتميزها عن عامة المسلمين”، ليخلص إلى القول : “حمل خطاب أهل السنة والجماعة هاجسين رئيسيين، وحدة الجماعة واستمرارها، وسيرها على نهج النبي صلى الله عليه وسلم وسنته، ولم يلبث هذا الخطاب أن وجد استجابة تلقائية من عموم المسلمين، الذين رأوا في مقولات أهل السنة ومواقفهم التعبير الأكثر مصداقية عن مقتضيات إسلامهم، ورأوا في الانحياز إلى هذه المقولات والمواقف خير دينهم ودنياهم “

ويشير المؤلف ـ في النهاية ـ إلى ما أسماه “عاصفة التحديث” التي اجتاحت العالم الإسلامي منذ القرن التاسع عشر الميلادي وحتى اليوم، ونشأة الدولة الحديثة التي صادرت الفضاء العام، وسيطرت على كل روافده، القضاء والتعليم والأوقاف والإفتاء، وقلصت دور العلماء في صياغة خطاب الجماعة ورسم ملامح هويتها، وأنتجت نخبها الأيديولوجية البديلة، لكنه يؤكد في الختام : “بيد أنه ليس ثمة شك أن اجتياز تحديات التحديث يظل مسؤولية أهل السنة والجماعة أكثر من غيرهم من أهل الإسلام، ليس فقط لأنهم أغلبية المسلمين الساحقة، ولكن أيضا لأن مسيرة الإسلام عبر التاريخ منحتهم، ومنذ قرون طويلة، شرف الحفاظ على دين الله ووحدة جماعته”.

كتاب بشير نافع نشرته “الشبكة العربية للأبحاث والنشر” في 500 صفحة من القطع الكبير.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى