د. محمد الأسطل يكتب: تربية الحج على دخول المعركة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسانٍ إلى يوم الدين، أما بعد:
فإنَّ العبادات في الإسلام متعاونةٌ متكاملة، ونحن نتفيأ في هذه الأيام ظلالَ ركنِ الحج، وفي خضم المعركة الكبرى التي تعيشها الأمة بين الحق والباطل أردت أن أُسَلِّطَ الضوء على مشاركة ركن الحج بالتربية اللازمة في هذه المعركة.
وأول شيء يقفز إلى الذهن لمن قرأ سورة الحج أنَّ الله تعالى تحدث عن الجهاد في سبيل الله عقب الحديث عن أحكام الحج.
فإذا خُتِمت آيات الحج بالحديث عن المقصد من الذبائح التي جاء الحديث عنها في السورة في بضع آيات بقوله سبحانه: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} [الحج: 37].. فإنَّ ما تلاها مباشرةً هو قوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ، أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 38-39].
ولمَّا كانت مناسك الحج كثيرةً فإني أختار نُسُكًا واحدًا وأركز عليه من هذه الزاوية؛ أعني من زاوية مشاركة هذا النسك في التربية الجهادية اللازمة في مناوأة الظالمين والمبطلين، ألا هو نسك رمي الجمار.
وسر الاختيار: أنَّ المعنى المقصود بالتنظير في هذه المقالة يظهر بوضوحٍ فيه من غير وجهٍ، فلا أحتاج لغيره في تقرير المعنى الذي أريد.
وأستفتح القول في ذلك بأهمية هذا النسك في التصور الشرعي، والتي تظهر في أنَّ الحاج يرمي الجمار على مدار أربعة أيام، وذلك من اليوم العاشر حتى اليوم الثالث عشر، بينما نجد أنَّ معظم أعمال الحج تتركز من ظهر اليوم التاسع إلى ظهر اليوم العاشر.
ثم إنَّ الأجر المرصود لرمي الجمار أجرٌ مدهشٌ حقًّا؛ جاء عند المنذري من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال -في سياق بيان فضائل المناسك-: «وَأَمَّا رَمْيُكَ الْجِمَارَ فَلَكَ بِكُلِّ حَصَاةٍ رَمَيْتَهَا تكفير كَبِيرَةٌ مِنَ الْكَبَائِرِ الْمُويِقَاتِ الْمُوجِبَاتِ!» حسنه الألباني.
إنَّ عدد الحصيات التي تُرمى لمن تأخر إلى اليوم الثالث من أيام التشريق سبعون حصاة، وهذا يعني أنَّ سبعين كبيرة يُمكن أن تُكفَّر بالرمي فقط!
فهذا يفتح نافذة التأمل لمحاولة اكتشاف سرِّ المسألة.
إنَّ الذي يظهر -والله أعلم- أنَّ ضخامةَ الأجرِ راجعةٌ أولًا لعظيم فضل الله الذي يتنزل على عباده الحجيج، بدليل عظمة الفضل الذي يكاد يُوجد في كل نسكٍ من المناسك، والذي بلغ ذروته أنَّ الله الجليل العظيم سبحانه يدنو من عباده الحجيج الواقفين بصعيد عرفات في ظل نعمة العتق من النار.
روى مسلم في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِى بِهِمُ الْمَلاَئِكَةَ فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلاَءِ».
ثم إنَّ بقعة الرمي شهدت إحدى المعارك الحسية مع الشيطان الرجيم رأس الباطل، وهذا الذي أريده في مقالتنا هذه.
روى الحاكم والبيهقي بسنده عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «لَمَّا أَتَى إِبْرَاهِيمُ خَلِيلُ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ الْمَنَاسِكَ عَرَضَ لَهُ الشَّيْطَانُ عِنْدَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ حَتَّى سَاخَ فِي الأَرْضِ، ثُمَّ عَرَضَ لَهُ عِنْدَ الْجَمْرَةِ الثَّانِيَةِ فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ حَتَّى سَاخَ في الأَرْضِ، ثُمَّ عَرْضَ لَهُ في الْجَمْرَةِ الثَّالِثَةِ فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ حَتَّى سَاخَ فِي الأَرْضِ».
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: «الشَّيْطَانَ تَرْجُمُونَ وَمِّلةَ أَبِيكُمْ تَتَّبِعُونَ».
فنبي الله إبراهيم عليه السلام رجم الشيطان رجمَ حسٍّ ونحن نرجمه من بعده رجمَ معنى، نرجم رمزيته وحزبه؛ إعلانًا للمفاصلة بيننا وبينه، وإعلانًا للحرب معه ومع حزبه وأوليائه المبطلين.
قد يسأل سائل: أما كان يكفي لتحقيق هذا المقصد أن نرجمه مرةً أو مرتين أو جولةً واحدة في كل جمرةٍ نرمي سبعًا كما صنع نبيُّ الله إبراهيم؟
الذي يقع في الظن أنَّ الشريعة تريد أن تنبهنا على شراسة المعركة، وأن تَنظِمَنا فيها، لندخل في أحداثها بقوة، ولئلا يكون في صدورنا أيُّ قدرٍ من الحنين للباطل أو التعايش معه.
فهي معركةٌ صورتها الرجم وحقيقتها تفعيل عقيدة الولاء والبراء والدخول بقوة في المعركة بين الحق والباطل ومنازلة الكفرة والمشركين والمنافقين من غير هوادة.
ويتأكد هذا المعنى في جو تلبيس الحق بالباطل، وضبابية الصورة عند كثيرٍ من الناس؛ لأنَّ الباطل في كثيرٍ من الأحيان يكون معه القوة والسلطة والجاه والمال، ويكون الحق مطاردًا متَّهمًا لا جاه له ولا مال معه.
فهنا تضطرب الأمور ولا يتضح المشهد على وجهه، فكانت هذه التربية الشرعية الواضحة التي تؤذن بوجود عدوٍّ حقيقيٍّ لا بد من حربه، ليعود الإنسان من حجه مجاهدًا في سبيل الله؛ إما بالساعد وإما باللسان أو بالقلم أو بالمال أو بغير ذلك مما ييسره الله لعبده ويفتحه عليه.
فآل رمي الجمار إلى الانتظام في المعركة بين الحق والباطل.
والذي يستفز الحاج ويُسَهِّلُ عليه استحضار هذا المعنى أنَّ النسك يمتد لثلاثة أيام بعد يوم النحر، وأنَّ رجم الجمار مأخوذ من رجم نبي الله إبراهيم عليه السلام للشيطان، فالتذكرة ليست بعيدةً من الأذهان لمن تأمل.
وثمة أمرٌ آخر حصل في هذا المكان يُقوِّي هذا المعنى وإن لم يتَّصِل به اتِّصالًا مباشرًا، وهو أنَّ هذا المكان هو الذي شهد اجتماع بيعة العقبة الثانية، ولا يخفى أنَّ بيعة العقبة الأولى بيعةٌ تربوية، أما الثانية فهي بيعةٌ سياسية، حصل فيها الاتفاق المباشر على أن يستقبل مُسلِمَةُ المدينة مُسلمَةَ مكة، ليلحق النبي صلى الله عليه وسلم بهم مباشرة ومن ثم يُعلَنُ عن دولة الإسلام.
والذي يعنينا هنا أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لمَّا بايع الأنصار على ذلك -بعد أن تلا عليهم شيئًا من القرآن وعرض عليهم الأمر- وإذ بالشيطان يصيح من رأس الجبل: يا معشر قريش؛ هذه بنو الأوس والخزرج تُحالِفُ على قتالكم!
ففزع الأنصار فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يروعكم هذا الصوت؛ فإنَّما هو عدوُّ الله إبليس وليس يسمعه أحد».
وأمرهم عند ذلك أن ينفضوا إلى رحالهم، وكانت البيعة قد تمت بفضل الله تعالى.
وفي روايةٍ أخرى أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال له: «استمع أي عدوَّ الله، أما والله لَأَفْرُغَنّ لك».
فهذه البقعة التي تشهد رمي الجمار ورجم رمزيَّة الشيطان تُذكِّر المسلم بالمعركة مع الشيطان في غير جولة.
وما زال مسجد البيعة قائمًا يمثل تذكرةً للحاج بهذه المحطة المركزية من التاريخ النبوي، ومسجد البيعة مبنيٌّ فوق البقعة التي شهدت اجتماع بيعة العقبة الثانية، ولهذا حمل اسمها، وهو يواجه الحاج حين ينتهي من رمي الجمار ويريد أن يستدير عائدًا إلى خيمته.
وقيمة هذا المعلم: أنه يُذَكِّرُ بالمحطَّةِ التي انتقلنا فيها من مرحلة الفرد في مكة إلى مرحلة الدولة في المدينة، وهذه إشارةٌ مهمة تقرر أنَّ هذا الدين ليس منزويًا في المساجد، وليس مختبئًا في الصدور؛ وإنما هو دينٌ ذو نزعةٍ سياسية توسعية، فالدين دعوةٌ ودولة، والنبي صلى الله عليه وسلم حين دخل المدينة دخلها بموجب اتفاق البيعة سلطانًا سياسيًّا إلى جانب دخوله لها رسولًا نبيًّا.
فالمعركة إذن ليست منحصرةً في ساحة الأفكار، بل هي معركة تنافس على قيادة هذه الأمة لجميع الأمم، والفتوحات الإسلامية أدل شيءٍ على هذه المعركة، ولهذا يخاف الغرب من أي تقدمٍ إسلاميٍّ ولو لم يشكل خطرًا؛ لأنَّهم يعلمون أنَّ الإسلام يربي أبناءه على القوة والتوسع، ومعلومٌ أنَّ الدولة التوسعية خطيرةٌ ولو كانت ضعيفة، والدولة غير التوسعية ليست خطيرة ولو كانت قوية.
وصفوة القول:
إنَّ نسك رمي الجمار يجعلك في مواجهة الشيطان وحزبه وجهًا لوجه، لترجع من حجك مجاهدًا في سبيل الله، تردد دومًا: أما والله يا عدو الله لأتفرغن لك.
هذا والله أعلم، وصلِّ اللهم وسلم على سيدنا محمد، والحمد لله رب العالمين.
تم تحريره:
عشية يوم الأربعاء الثالث من شهر ذي الحجة 1444 هـ الموافق 21-6-2023