أقلام حرة

أحمد الشريف يكتب: موسم البكاء على العهد الملكي!.

«حين كَتبت مقدمة الطبعة الثانية من هذا الكتاب كانت مصر لا تزال ترزح تحت حكم الطاغية، ولم يكن المجاهدون الأبرار قد قاموا بحركتهم المباركة التي طوحت برأس الفساد وأرغمته على مغادرة البلاد إلى غير عودة.

ولم تستطع هذه الطبعة أن تجد طريقها إلى أيدي القرّاء، فقد كانت كل الطرق يومئذ مقفلة بقيود الرقابة والنشر.

وحين أراد الله الخير والتقدم لهذه الأمة ساق لها هذه العصبة المؤمنة من أبنائها فاستطاعت أن تزيح هذا الكابوس المخيف، وغالبت الشر والفجور حتى صرعتهما أخيرا في مصر. وبدأ الناس يتنفسون نسيم الحرية لأول مرة ملء صدورهم.

واستطاع هذا الكتاب أن يرى النور وأن يواصل رحلته إلى أيدي القراء الكرام. فهذه هي الطبعة الثانية نقدمها للقراء كما أعددناها قبل حركة الجيش، ولقد تعمدنا ألا نزيد عليها شيئا، ليرى القارئ أن ما تمنيناه قد وقع، وأن ما نادينا به منـذ زمـن بعـيد أصـبح حقيـقة واقعة.»!.[١].

ليست هذه الفقرة تمهيدًا لكتاب صدر بعد ثورة يناير ٢٠١١م وإن كنا رأينا مثلها الكثير بعد الثورة المجيدة، وإنما هي من كتاب صدرت طبعته الأولى في آخر أيام العهد الملكي ولحقته المصادرة وقرار المنع من التداول حيث كان يعتبر الوثيقة الأهم في ذلك الوقت وحتى يومنا هذا عن دور القوات المتطوعة وفي الصدر منها جماعة الإخوان المسلمين وجهادها في حرب فلسطين ١٩٤٨م، وهو الكتاب الذي لم يكن يحمل اسما لدار الطبع والنشر وإنما عنوانا فقط مع اسم مؤلفه الأستاذ «كامل الشريف» أحد أبرز قادة المجاهدين في تلك الحرب. والذي لم يكن يعلم أن الأيام تدخر له ولجماعة الإخوان كلها محنة أشد وأنكى بعد سنتين فقط من حركة الجيش المباركة التي تم الانقلاب عليها في العام ١٩٥٤م.[*].

وهنا نأتي للخطأ الجسيم الذي نراه ونلمسه بقوة كلما حلت ذكرى ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢م من كل عام، في العديد من المنشورات والأحاديث التي تمدح الحكم الملكي وديمقراطيته المزعومة وقوة مصر الاقتصادية وعظمتها الموهومة!.

ومن العجيب أن يتكرر الأمر دائما كلما عاصرنا السيئ الظالم ثم جاء بعده من كان أشد سوءا وظلما. مثلما يقارن اليوم البعض بين ما كنا عليه أيام حكم “مبارك” بما نكابده الآن من جراء الانقلاب العسكري في منتصف ٢٠١٣م.!..

فصارت رؤيتنا للأمر مشوهة وتبريرنا للحاكم مكرورًا وعاطفيًّا دون أي تفكير وروية، وكأنه إرث توارثناه مع مخلفات المصريين القدماء وآثارهم، ففي التراث الفرعوني كان الفرعون الذي هو الملك الإله طوال حياته، يتحول أيضا إلى إله بعد وفاته. ويصعد إلى مملكة السماء ليندمج مع أبيه رمز الشمس الإله «رع»!.[٢]

وهذا التأليه في الدارين الفانية والباقية ليس من سمات ملك عات مستبد أوجب على رعاياه الخانعين الأخذ بها. بقدر كونه عقيدة وإيمانًا عميقًا متجذرًا داخل الشخصية المصرية منذ القدم!.

لذلك لن أقع هنا في فخ المقارنة بين العهد الملكي وما تلاه من حكم العسكر، وإنما سنتعرف على حقيقة ذلك العهد ونضعه في سياقه التاريخي بشهادات موضوعية موثقة بعيدا عن الدعاية الناصرية التي يتخذها البعض ذريعة في تبييض صفحة الملك التي يعتقدون بتزييفها!.

ولقد كفانا نشر الوثائق البريطانية والأمريكية التي تناولت تلك الفترة عناء رد تهمة الدعاية الناصرية أو الوفدية حول فساد الملك فاروق وخلاعته ومجونه، حيث وثّقت السفارتان البريطانية والأمريكية وسجلتا كل ما حدث في مصر بتلك الفترة.

ومثال ذلك ما تداولته البرقيات والخطابات التي أرسلها اللورد «كيلرن» المفوض السامي وسفير بريطانيا في مصر إلى حكومته. حيث فضح في إحداها بتاريخ ١٨ مارس ١٩٤٤م علاقة فاروق بزوجة الأمير «بيتر» ولي عهد اليونان، وتناول في برقية أخرى العلاقة الآثمة بينه وبين سيدة من أصل يوناني متزوجة من مصري تُدعى «ليلى شيرين» والتي تم الإمساك بها عن طريق وصيفات الملكة «فريدة». ومن ثم تم إيداعها مستشفى الأمراض العقلية سترا للفضيحة. وهى الواقعة التي كان لها أكبر الأثر في طلاق الملكة «فريدة» من الملك الخليع فيما بعد!.[٣].

وبلغ حد المجون وعدم المسئولية أن جمعته علاقات محرمة مع شخصيات صهيونية مثل «هيلين موصيري» التي وصفها السفير البريطاني بأنها قوادة شهيرة، وأيضا اليهودية «ليليان كوهين» التي اعتقلتها الأجهزة الأمنية المصرية لعلاقتها بالموساد الإسرائيلي ولكن «فاروق» أمر بالإفراج فورا عنها، وأخفاها في المزارع الملكية بأنشاص، حيث كان الملوك والرؤساء العرب يجتمعون للتشاور في أحوال القضية الفلسطينية!.[٤]..

والطريف أن نجد الشعب المصري وصحافته وقتها أكثر دراية بفضائح الملك وعدم أهليته، منا نحن الآن رغم الفارق الهائل في التقدم والثورة المعرفية والتقنية بيننا وبينهم، ونرى ذلك جليًّا في شهادة رجل ثقة معاصر لتلك الفترة مثل الشيخ الجليل محمد الغزالي (١٩١٧ – ١٩٩٦م) عندما قال:

«إنني – كغيري – أعرف الحقيقة المرة. أعرف أن فاروقًا وثلة من رجاله استغلوا حرب فلسطين أسوأ استغلال، وأنهم جمعوا من ورائها القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، وأنهم هزءوا بفضائل الأمة ووجودها، وتضحيات الشباب وتفانيهم!..

وقد راحت هذه الخنازير القذرة تتاجر بالأشلاء والدماء، وتسرق المال لتنفقه على موائد القمار والنساء، أو لتدخره دعامة لطغيانها وجبروتها في أنحاء البلاد»!..

ويضيف الغزالي رحمه الله: (لم يكن أغيظ لنفسي من نجاح الملك الخائن «فاروق» وحاشيته في إحباط الجهاد في القناة ضد الإنجليز، سوى تزكية شيخ الأزهر ووكيله له ومدحهم إياه!.

فإن أهل الأرض والسماء يعلمون أن الملك «فاروق» لم يبذل قرشا من ماله في سبيل الله، بل كان أجرأ لص في العصر الحاضر على سرقة سبل الله بما فيها ومن فيها. فإنه كان من أحط ملوك الأرض وأغلظهم كبدا وأقذرهم يدا!.

وأنه من فضل الله علينا أن رفضنا السير في موكب العبيد وأننا شننا حربا ضارية علي الفساد الملكي وحواشيه وذيوله وظاهره وباطنه، وجرأنا العامة علي النيل منه والتهجم عليه، حتى واتت الجيش الفرصة فركل الملك الخليع، وأرهن السجون أعوانه الخونة!.)!.[٥].

وإذا كانت الوثائق الأجنبية عن تلك الفترة كشفت كل هذا فقد سبقها بسنوات كاتب واعد في مقتبل العمر هو الأستاذ «أحمد بهاء الدين» حين كتب في أغسطس ١٩٥٢م كتابا قيّما مؤرخا لفترة الملك “فاروق” بعد أيام قليلة من طرده في ٢٦ يوليو، وقام بالتقديم للكتاب الكاتب السياسي الكبير إحسان عبد القدوس (الذي تحول بسبب أهوال العهد الناصري للأديب صاحب روايات الفراش)!..

فتحدث في الكتاب بالتفصيل عن فاروق ورجال دولته من أمثال المجرم رئيس الحكومة ووزير الداخلية محمود فهمي النقراشي، ورجل الصـهيونية الأول «إسماعيل باشا صدقي»، ورجل الإنجليز عدو الدستور «حافظ عفيفي» رئيس الديوان الملكي الذي خرجت ضده الجماهير في مصر والسودان تطالب بسقوطه ورئيس الوزراء «إبراهيم عبد الهادي» الذي حُكم عليه بعد الثورة بالإعدام لجرائمه وغيرهم الكثير!.

فأبرز الكتاب أيضا فضائحه التي نشرتها الصحف والمجلات الأجنبية وكانت تزكم الأنوف ويتحدث بها الناس في مجالسهم. كما أجاب عن السؤال الضخم الذي راود أصحاب السير والتاريخ: «لماذا هزم الملك بهذه السهولة ولماذا فرح الشعب بالخلاص منه؟!»

فالكتاب في حقيقته لم يسجل نزوات فاروق وفساده بقدر ما سجل مصيبة مصر بهذا الملك!.

ومما تم إبرازه في الكتاب ما نشرته الـ«فرانس برس» في صدر صفحتها الأولى: «فاروق ينتزع قصب السبق في منتجع دوفيل ويخسر نصف مليون فرنك في نصف ساعة على موائد القمار»!.

وهو ما أكدته مجلة «باراد» حينما وصفت الملك بالمقامر الكبير الذي خسر خلال تسع ليال أقامها في فندق كارليتون مبلغ ٣٠٠ ألف دولار أو ما يعادل تقريبا مائة ألف جنيه آنذاك، وذلك خلال رحلته مع زوجته الثانية «ناريمان صادق»، في صيف عام ١٩٥١م، وأما إجمالي مصاريف الرحلة فهذا ما لا يمكن احصاؤه. وقد أصبح مألوفا في أوروبا منظر هذا الملك الذي لا يعنيه سوى قضاء أوقات بهيجة يدفع ثمنها ملايين التعساء في مصر!.[٦].

وقد انتقد هذا السفه في الإنفاق شيخ الأزهر «عبد المجيد سليم» في أول سبتمبر من نفس العام معترضا على الحكومة عندما خفضت من ميزانية الأزهر قائلا: تقتير هنا وإسراف هناك!.

فقرر الملك فصله من منصبه..

كان هذا غيضًا من فيض خلاعة الملك ومجونه وما شابه من أَثَرةٍ وحرصٍ على كرسي المُلك ولو على حساب مصالح البلاد والعباد وبخيانة قضايا الأمة واستقلالها!.

وهو ما نراه في العديد من المواقف التي لا يتسع المجال لتفاصيلها، ولذلك اكتفى منها بموقف يتناول القضية الأهم في تاريخ الأمة والتي كانت الأشد خطورة على أمننا القومي.

فمع تطورات القتال في حرب فلسطين وظهور خطر مجاهدي جماعة الإخوان المسلمين قلب القوات المتطوعة على العدو الإسرائيلي، وهذا ما كان يعلمه جيدا «عبد الرحمن عزام باشا» أمين عام الجامعة العربية عندما طالب الصاغ محمود لبيب القائد العام لمتطوعي الإخوان المسلمين بالعمل على تجنيد أكبر عدد ممكن لإنقاذ الموقف في فلسطين!.

ومن ثمّ كانت دعوة الإمام «حسن البنا» للجهاد الديني وإعلان التعبئة الشعبية للقتال هي السبب الرئيسي في توجيه الملك «فاروق» الأمر إلى رئيس وزرائه «النقراشي باشا» بحل جماعة الإخوان واتخاذ الإجراءات اللازمة للبطش بهم واستئصال شأفتهم، فتم اعتقال الأعضاء في القاهرة والمحافظات المختلفة وحصار معسكر المجاهدين برفح في ديسمبر ١٩٤٨م، قبل اغتيال مرشدهم في فبراير الذي يليه!.[٧]..

وقبل الختام يجب التعرض إلى أشهر ما وقع فيه البعض من خطأ عندما قاموا بالمقارنة الاقتصادية للفترة الملكية مع اقتصادنا الحالي على أساس بالغ السطحية وهو قوة العملة دون أى اعتبارات أخرى، حيث كان الجنيه المصري في آخر أيام العهد الملكي يفوق في قيمته الجنيه الذهب ويعادل حوالي ثلاثة دولارات أمريكية!.

وللحكم بصورة أكثر دقة وواقعية يجب معرفة أن الجنيه المصري كان عملة قوية بالفعل ومن أقوى العملات في العالم ولكن كم عدد أفراد الشعب الذين كانوا يمتلكون هذا الجنيه وما هو معدل الدخل مقارنة بمعدل الإنفاق!.

ولما كانت مصر دولة زراعية بالأساس فسوف نبدأ بأحوال أهل الريف في ظل الملكية حيث ارتفعت نسبة الفقراء المعدمين فيه من ٧٦ بالمائة سنة ١٩٣٧م عندما تولى الملك فاروق عرش البلاد، إلى ٨٠ بالمائة من جملة السكان سنة ١٩٥٢م.

ولم تكن المدن أفضل حالا حيث قدرت مصلحة الإحصاء في الأربعينات أن ما يلزم للأسرة المكونة من زوج وزوجة وأربعة أبناء لا يجب أن يقل عن ٤٣٩ قرشا في الشهر طعاما وكساء وفق الأسعار الرسمية، ومع هذا كان متوسط الأجر الشهري للعامل لا يتجاوز ٢٦٣ قرشا أي حوالى نصف ما تتطلبه الحياة الكريمة!.

هذا في الوقت الذي كانت غالبية الأراضي الزراعية في أيدي فئة محدودة من الإقطاعيين والشركات والمصانع والبنوك صاحبة التمويل من الأجانب واليـ.هود!.[٨]..

وفي النهاية أحب دائما التأكيد على منهجي في الكتابة عن الطغاة ومن ضيعوا الأمة باقتباس كلمة الشيخ الجليل «محمد الغزالي» في كتابه قذائف الحق:

«لست أطلب القصاص والانتقام من أشخاص ذهبوا أو بقوا، فإن ذلك فوق مستوي أمتنا الآن، كل ما أريده أن نعرف قيمة الحرية والعدالة وأن نصون بهما مستقبلنا إذ حرم منها ماضينا القريب ..

وأريد أن أُعلِّم أمتي احتقار الجبابرة، وألا تترك زمامها بين أيديهم القذرة، فلن يقودوها إلا إلي العار والنار»!..

مع التنبيه على أن القول بأن لكل حاكم حسنات وسيئات هذه نضعها نصب أعيننا عندما نتحدث عن أمثال الملك العادل نور الدين محمود الذي جاهد الصليبيين ونهض بالأمة ثم نلتمس له العذر بتولية ولده الصبي من بعده فدبت الخلافات بين قواده وكاد يضيع ما بناه لولا تدارك الله ولطفه..

ومثل ذلك أيضا إذا ذُكر الحاجب المنصور محمد بن أبي عامر الذي حكم الأندلس وحفظها مزدهرة ماجدة وقهر العدو حتى دقت الأجراس في أوروبا الصليبية فرحا بموته، وقد شاب حكمه بعض المظالم والبطش!.

أما أمثال فاروق وعبد الناصر والسادات ومبارك الذين أضاعوا الأمة فلا نأسى على القوم الظالمين، وإلا خَنع الناس أمام الظالم وقالوا ربما لو خرجنا عليه وقاومناه ابتُلينا بمن هو أكثر ظلما واستبدادًا!.

كتبه الفقير إلى عفو الله/ أحمد الشريف..

#معركة_الوعي_أم_المعارك

هوامش المقال:

[*] لتفاصيل انقلاب ١٩٥٤م،  يُرجى مراجعة مقال: بداية حكم العسكر في مصر

[١] الإخوان المسلمون في حرب فلسطين، كامل إسماعيل الشريف، صـ٥، الطبعة الثانية سنة ١٩٥٢م.

[٢] فجر الضمير، ه‍.بريستد، صـ٥٧ وما بعدها، طبعة مكتبة الأسرة.

[٣] سنة من عمر مصر.. تاريخ مصر بالوثائق السرية البريطانية والأمريكية، محسن محمد، صـ١٤٨، طبعة دار المعارف سنة ١٩٨٢م.

ومذكرات اللورد كيلرن جـ٢صـ٢٥٧، إعداد البروفيسور تريفور إيفانز، ترجمة د/ عبد الرؤوف أحمد عمرو .. سلسلة تاريخ المصريين، طبعة الهيئة العامة للكتاب، القاهرة سنة ١٩٩٤م

وتم وضع صورة البرقية الإنجليزية في التعليق الثاني..

[٤] كيف سقطت الملكية في مصر، فاروق البداية والنهاية، محمد عودة، صـ١٦٤، طبعة مكتبة الأسرة ٢٠٠٢م.

[٥] بتصرف من كتاب «في موكب الدعوة»، محمد الغزالي، صـ٥٣، صـ٦٥، صـ٩٢، صـ١١٣.

[٦] فاروق ملكا، أحمد بهاء الدين، صـ١٩٤ وما بعدها..وعن شهوة النساء والقمار صـ١٢٣ وما بعدها، وعن الاختراق الصهيوني ورجلهم إسماعيل صدقي رابط المقال بالتعليق الثالث.

[٧] الإخوان المسلمين في حرب فلسطين، كامل الشريف، صـ١٨٨، وأيضا كتاب: أسرار حركة الضباط الأحرار والإخوان المسلمون، حسين محمد حمودة صـ٥٩، صـ٦٠، طبعة الزهراء للإعلام العربي..

[٨] أربعون عاما على ثورة يوليو. دراسة تاريخية، دكتور رؤوف عباس وآخرون، صـ٢٠ وما بعدها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى