أحمد الشريف يكتب: القرآن في دار المناسبات !..
﴿..وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ﴾ ..
سورة النحل: الآية ٨٩
عندما تحدثت في مقالي السابق عن فساد العهد الملكي وخلاعة «فاروق» ومجونه، مبرهنًا على ذلك بالأحداث والوقائع وشهادات المؤرخين وبعض الثقات المعاصرين مثل الشيخ محمد الغـزالي [١٩١٧-١٩٩٦م] الذي قال: «إنني – كغيري – أعرف الحقيقة المرة. أعرف أن فاروقًا وثلة من رجاله استغلوا حرب فلسطين أسوأ استغلال، وأنهم جمعوا من ورائها القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، وأنهم هزءوا بفضائل الأمة ووجودها، وتضحيات الشباب وتفانيهم، فراحت هذه الخنازير القذرة تتاجر بالأشلاء والدماء، وتسرق المال لتنفقه على موائد القمار والنساء، أو لتدخره دعامة لطغيانها وجبروتها في أنحاء البلاد.. ولذلك لم يكن أغيظ لنفسي من نجاح الملك الخائن وحاشيته في إحباط الجهاد في القناة ضد الإنجليز، سوى تزكية شيخ الأزهر ووكيله ومدحهما إياه»!.
قام أحد الأصدقاء بمحاولة لنقض كلامي عن طريق نشر صور للملك «فاروق» وهو يستمع للقرآن بصوت الشيخ «مصطفى إسماعيل» وغيره من القُرّاء المجيدين لكتاب اللّه تعالى!.
فقُلت له متعجبا وماذا في ذلك؟!.
إنك ترى في «عبد الناصر» ظُلما وطُغيانا عظيمًا!..
ومع ذلك لم يشفع له عندك صورته عند الكعبة المشرفة أو افتتاح معظم حفلاته العامة بتلاوة آيات من الذكر الحكيم.. بل وأزيدك من الشعر بيتًا، هل تعلم أن إنشاء إذاعة القرآن الكريم سنة ١٩٦٤م، وتسجيل القرآن كاملا لأول مرة تاريخياً على أسطوانات بصوت الشيخ «محمود خليل الحصري» وإذاعتها يوميًّا، كان بتشجيع وترحيب منه شخصيًّا!..
وهنا توقفت عن الحوار متأملا تلك النظرة السطحية المنتشرة عند غالبية الشعوب الإسلامية، وتلك الهالة الكبيرة حول الحاكم الذي يظهر في المساجد أو في مناسبات تتصدرها تلاوة القرآن والتي تنسحب بالتالي على المُقْرِئ الذي يضعونه في صورة مثالية شبه مقدسة لا يفطنوا معها لحقيقته المؤيدة للظالم المستبد، فيصدمهم سقوطه في بئر النفاق وهو الحامل لكتاب اللّه عزّ وجلّ، مثلما حدث مع «السديس» و«مشاري» و«الطبلاوي» و«نعينع» وغيرهم!..
فمن المؤكد أن القرآن الكريم ما نزل من أجل هذه الصورة العبثية المشوَّهة الراسخة في أذهان الكثيرين، وهو ما حاول الشيخ الفقيه «محمد الغزالي» التنبيه عليه عندما حكى عن واقعة عظيمة الدلالة في موضوعنا هذا قائلا:
«أمس سمعتُ القارئ يتلو من مسجد «الحسين»، ودار الإذاعة تنقل إلي العالم قراءته، فإذا به يتلو وهو يتغني بالآيات الجليلة في سورة طه: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (١٠٥) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (١٠٦) لَّا تَرَىٰ فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (١٠٧)﴾..
إن ذلك الوصف القرآني يقف له شعر الرأس، ولكن المغفلين الملتفين بالقارئ يستقبلون هذا النبأ الخطير، بماذا؟!..
بهذه الكلمات: “يا صلاة النبي.. الله الله..كده كده يا سيدنا الشيخ”!..
.. أفبعد ذلك عبث؟!.»..
هذا المثال الذي ذكره «الغزالي» بالغ الأهمية في تشخيص مرض الأمة العضال، فالمشتغل بالقرآن في بلداننا الإسلامية -إلا من رحم الله- ما هو إلا مُحيٍ للحفلات والمناسبات الاجتماعية من أفراح ومآتم!.
حتى صار المُقرئ نظيرًا لأهل الفن والغناء، يغالي في الأجر ويشترط آلاف الجنيهات ليطرب الناس بنداوة صوته وقوة طبقاته وتمكنّه من كافة المقامات الموسيقية، وكلما ازدادت شهرته علا سعره، الذي يبذله صاحب المأتم سعيدًا مختالاً، لإرضاء غروره والتباهي والتفاخر أمام الناس!.
مما لا ريب فيه أن سماع «القرآن» يختلف عن الأغاني في الأجر والثواب عند الله عزّ وجلّ.. فهذا من المسلمات بلا شك.. ولكن تعاطى الناس مع القرآن المسموع يوحى بغير ذلك بكل أسف.. فإننا لا نستمع للقرآن ونتدبر معانيه بقدر تساؤلنا عن شخصية المقرئ، وكيف يقارب في صوته وطريقته جمال أسلوب «المنشاوي» أو قوة أداء «عبد الباسط» أو إتقان ووضوح «الحصري» وهكذا!.
وذلك حرفيًّا ما حرصت تلك الطغمة الحاكمة على زراعته في نفوس الناس، وكيف أرادوا التعامل مع كتاب الله تعالى الذي يجب حصره في نطاق دار المناسبات وتنظيم المسابقات!..
فرأينا تكريم المقرئ الشيخ «مصطفى إسماعيل» من قبل الرئيس «جمال عبد الناصر» في ٢١ ديسمبر سنة ١٩٦٥م أثناء الاحتفال بعيد العِلم الحادي عشر، ومنحه وسام الجمهورية من الطبقة الثالثة وهو نفس الوسام الذي مُنح في ذات الحفل لكل من المطربة «نجاة» والفنانين «ماجدة» و«كمال الشناوي» و«بنى عبد العزيز» وحتى الشاعر «صلاح جاهين» عدوّ الدين المُتبجح بمهاجمة الإسلام، الدائم السخرية من رموزه في كل مناسبة. أما المطربة «أم كلثوم» والموسيقار «عبد الوهاب» فمكانتهما أرقى بكثير من ذلك حيث تم تكريمهما أولًا بمنحهما قلادة الجمهورية أرفع الأوسمة المصرية -بعد قلادة النيل التي نالها الدكتور «طه حسين»- والتي لم تُمنح لكافة العلماء على اختلاف تخصصاتهم الذين كُرّموا في يوم العِلم!.
أما مَن يستعمل «القرآن» في رفع شأن الأمة وتقويم المجتمع والسمو بالأخلاق ونشر قيم العدل والمساواة وحفظ الكرامة الإنسانية والأخذ بأسباب القوة والحث على طلب العلم وإتقان العمل فلا سبيل لتكريمه والاحتفاء به بل يجب محاربته والتخلص منه وتشويه صورته بين العامة، حتى لا يؤثر عليهم فيخرجهم من نطاق التذوق والاستمتاع الفني إلى رحابة التدبر وإنعام النظر وإعمال الفكر وصولًا إلى تحقيق الهدف والغاية المتمثلة في العمل بمقتضى أحكامه والسيّر وفق منهاجه القويم!.
ولذلك في نفس الوقت الذي كان يُكرّم فيه أهل الطرب ومشاهير المقرئين، أُعيد اعتقال وإعدام الأستاذ «سيد قطب» أحد أهم الناظرين في كتاب الله وقتئذ، على الرغم من مناشدة حكومات ومنظمات إسلامية عديدة من مختلف أنحاء العالم الإسلامي للإفراج عنه، فقد بلغ من إبداعه وعظيم علمه بالقرآن، أن الأستاذ الداعية الكبير «علي الطنطاوي» قال: (إن «سيد قطب» وقع على كنز من كنوز القرآن كأن اللّه تعالى ادخره له، فلم يعط مفتاحه لأحد قبله، حتى جاء هو ففتحه..)!..
وربما تصور البعض أن الأمر اختلف مع زوال حكم «عبد الناصر» ومجيء خلفه الرئيس «السادات» الذي رفع شعار دولة العلم والإيمان للقضاء على آثار الشيوعية والإلحاد التي انتشرت في ظل الفترة الناصرية، حتى عُرف بالرئيس المؤمن في أوساط العامة، لدرجة أن «محمود أبو وافية» -صهر السادات- اقترح في مارس ١٩٨١م الدعوة للاستفتاء على منحه لقب سادس الخلفاء الراشدين!.
ولكن في حقيقة الأمر كان ذلك مجرد تكتيك من أجل القضاء على أي نفوذ للدولة العميقة والعصبة الناصرية، فلما تمّ للسادات الأمر نعق بقولته الشهيرة «لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة» وهى العبارة التي تمثل منهج مثله الأعلى -حسب اعترافه في مذكراته «البحث عن الذات»- «كمال أتاتورك» ذلك المرتد الذي أسقط الخلافة وسخر من كتاب اللّه تعالى أمام برلمان بلاده: «كفانا تينًا وزيتونًا»!..
بناءً عليه كان من الطبيعي أن يفرد الصحفي الأول في عصره «موسى صبري جرجس» صفحات جريدة «الأخبار» لنشر مقالات المستشار «محمد سعيد العشماوي» والتي خصصها لهدم الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية في الفترة من يوليو ١٩٧٩م حتى يناير ١٩٨٠م.. حيث عُدّ «العشماوي» وقتها مفكرًا إسلاميًّا رفيع القدر، وزادت قيمته عند النظام بعدما نال استحسان «موشيه ساسون» ثاني سفراء الدولة العبرية في القاهرة، فأثنى عليه قائلا: («العشماوي» رئيس محكمةٍ ضليعٌ في شئون الإسلام، عالمٌ بالقرآن الذي يدعو إلى الاعتدال والسلام والجيرة الطيبة ونبذ الإرهـاب والحـرب)!..
ولإزالة أسباب التعجب من حشر كلام السفير الإسـرائيلي في الأمر، يكفي أن نذكر أن «السادات» قد منع أحاديث الشيخ «الشعراوي» من التلفزيون بسبب احتجاج السفارة الإسـرائيلية على كيفية تفسيره لسورة الإسراء ومهاجمة اليـهود!..
وهى الواقعة التي أثبتها الدكتور «محمود جامع» -صديق السادات المقرب- حين حكى مقابلته مع الشيخ «الشعراوي» بعدها، فقال له الشيخ: «بقينا في الهوا سواء»، حيث كان السادات قد أمر بوقف تسجيلات برنامج «حديث الروح» الذي كان يقدمه الدكتور «جامع» بسبب تحريمه للتداوي وتنشيط البدن عن طريق شرب الخمر وتعاطي الحشيش!..
أما الرئيس “مبارك” الذي اقتُطِعَت من أجله الآية ﴿وَهَٰذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾[سورة الأنعام آية ١٥٥].. لتُقرأ: «مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ»!..
فنكتفي بنص شهادة الدكتور «محمد عمارة» في أكثر من مقابلة تلفزيونية:
«في أوائل التسعينيات قُلت لوزير الأوقاف يومها «محمد علي المحجوب»: يا دكتور الرئيس يسمع بأذن واحدة من أصحاب اتجاه واحد يمثله فرج فودة وعبد العظيم رمضان وجابر عصفور وفاروق حسني، ألا يوجد علماء للمسلمين ممكن الرئيس يسمع لهم؟!..
قال لي: أنا سأقدم اقتراح بمجموعة منهم الشيخ «الشعراوي» والشيخ «الغزالي» وأنت لمقابلة الرئيس!..
وبعد عدة أشهر سألته عن مصير ذلك الاقتراح؟!.
فقال لي: يا دكتور الرئيس لا يريد أن يسمع كلمة الإسلام !..
والله الذي لا إله إلا هو حدث ذلك..»!.
وبعد .. فإن هذا كان حالنا مع “القرآن العظيم” في العهود السابقة حتى وصلنا إلى وضعنا الآن حيث سقطت ورقة التوت وعدمنا حتى ذلك المظهر الخارجي الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، وصار بؤس الحال يُغني عن البيان!..
في النهاية إذا كان هذا هو الداء العضال والعلة الخطيرة، فما هو الحل والعلاج وكيف السبيل إليه؟!.
هذا سؤال ضخم تحتاج الإجابة عليه إلى تضافر علماء الأمة ومفكريها، مع إبراز ما يصلح من جهود السابقين وما قدموه في هذا الشأن وهو ما سوف نستكمل الحديث به في المقال القادم بإذن الله تعالى..
كتبه الفقير إلى عفو الله/ أحمد الشريف..
١٥ محرم ١٤٤٥هـ / ٢ أغسطس ٢٠٢٣م.
#معركة_الوعي_أم_المعارك