مقالات

عامر شماخ يكتب: مَاذا أصابَك يا وطن؟!

ما أقسى أن يضيع الرجلُ الفاضلُ فى وطنه، فيصير كالتائه الغريب، لا يتذكر شوارعه ودروبه، ولا يأنس لأهله وناسه.. لقد فقد طعم هذا الوطن ولم يعد يشمّ طيبه، وكان طعمه وطيبه يشفيان السقيم.. انقلب حال هذا الوطن بين يوم وليلة فغدا سجنًا مهلكًا، لا تصلح فيه حياة، صار ملهى الطغاة وساحة السُّرَّاق، عاث فيه الذئابُ وغاب منه الآساد، وفشت فيه المذلّة وطغى فيه الهوان.

إنك كنتَ ترى فيه، فيما مضى، الوجوه المشرقة والضحكات الرائقة، وكنت لا تفتقد النجدة والمروءة، والكرم والإيثار، اختفى كلُّ هذا وحلَّت محله الدموع والآهات، بعدما كثُرت المظالم وفشا المرض وغزانا الفقر، حتى لم تعد الأحلام مشروعة.. لقد ضاق «الوطن» ببنيه وغلَّق أبوابه أمام كل من أراد أن ينعم فيه ولو بشاهد قبر؛ كما يصوِّر ذلك «فاروق جويدة»: (الآن يا وطنى أعود إليك توصد فى عيونى كل باب.. لِمَ ضقتَ يا وطنى بنا؟ قد كان حلمى أن يزول الهمُّ عنى عند بابك.. قد كان حلمى أن أرى قبرى على أعتابك.. الملح كفننى وكان الموج أرحم من عذابك.. ورجعتُ كى أرتاح يومًا فى رحابك.. وبخلت يا وطنى بقبر يحتوينى فى ترابك.. فبخلت بالسكن والآن تبخل بالكفن.. ماذا أصابك يا وطن؟).

لقد عَشَقَ هذا الوطن، وانشغل بهمومه، وجدَّ فى بنائه وإصلاحه، وساند فقراءه، وحرص على أن يتقدم ويسود.. ثم كان جزاؤه ما لا يخفى من إهدار الكرامة، وتشويه السمعة! رغم أنه الأشرف والأعدل، المستقيم السيرة، النقى السريرة، أيكون جزاء الإحسان هذا التغريب والإجرام؟ إنه لم ينازعكم سرقة، ولم يشارككم فسادًا بل حلم بوطن رائع، وطن تسوده العزة وتغشاه الحرية ويرفرف على بنيه السعادة والسلام، وطن متوحد لا يعرف التفرقة، قوامه العدالة والشفافية والمساواة. فهل هذه أحلامٌ ليست مشروعة؟!

من يمدُّ يد العون إذًا، بعد هذا الإنسان، للمحتاجين والمشردين؟ ومن يذكِّر بعوامل النهضة فى كل حين؟ ومن سيمسح دمعة اليتامى والأرامل والمساكين بعدما أفقدتموه الانتماء لهذا الوطن واتهمتموه فى وطنيته التى هى من صناعتكم وعلى مقاسكم؟ إن من يحب دينه وبلده لا يُجبر على التخلف والقعود، وإلا ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وضاقت عليه نفسه، وتطلعت عيناه لأرض الله الواسعة لعل فيها الناصر والمعين. فماذا إذا أُغلق هذا الباب أيضًا؟ إنها الغربة والضياع الذى يلاقيه الفضلاء على يد شرذمة قليلين.

نعم لهذا «الوطن» حقوق، لكن من يشك فى أن هؤلاء الأفاضل لم يؤدوها كاملة غير منقوصة؛ من الاعتراف بحقوق الغير، واحترام الدستور والقوانين السارية، والمحافظة على الملكيات إلخ. فهل احترم القائمون على هذا الوطن حقوق المواطنين؟ للأسف لم يحدث هذا على الإطلاق، فلا يحصل الموطن على حق واحد من الحقوق المنصوص عليها فى الدستور؛ فالملكيات الخاصة مهددة، وهناك قيود فى التنقل والإقامة، وهناك اعتقالات ونفى وحبس ومحاكمات من دون حق..

ولو وسّعنا الدائرة لو وجدنا قمعًا للحريات؛ حرية الفكر والتدين والتعبير، كما أُلغى ما يُعرف بـ«الساحة السياسية»، وهى الحد الأدنى فى مقومات الدولة الحديثة، فلا ترشّح ولا أحزاب، ولا حركات أو نقابات أو جمعيات، ولا حق فى التظاهر أو الظهور فى الإعلام إلخ. فماذا يفعل المحترمون فى هذا الوطن؟

الأصل أن يكون هناك ثباتٌ وتضحيةٌ، وعدم استماع لدعاوى التثبيط، وعدم الخديعة بما يدّعيه الخصوم، وعدم الاغترار بما يفوه به الجهلة والسفهاء، والحذر من وجود بعض آثار العبودية الموروثة فى داخل كل منا، وأخيرًا عدم القبول بأنصاف الحلول. وإذا طال الأمر، لا سمح الله، فإن العزاء فى إرادة الله التى ترى ما لا نرى، وهى تقدِّر الخير دومًا لأولياء الله وعباده الصالحين؛ (واللهُ ليس بغافلٍ عن أمره… وكفى بربك ناصرًا ووكيلًا).

عامر شماخ

كاتب صحفي مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى