السبت سبتمبر 21, 2024
مقالات

د. عبد الآخر حماد يكتب: موقفٌ جليل للشيخ حسنين مخلوف

الشيخ حسنين مخلوف.. موقفٌ جليل في إيواء مُطارَدٍ استجار به

الزمان: يوم من أيام شهر ديسمبر سنة 1954م، حوالي الساعة الثالثة بعد الظهر.

المكان: منزل مفتي الديار المصرية في ذلك الوقت فضيلة الشيخ حسنين محمد حسنين مخلوف، الكائن بكوبري القبة بالقاهرة.

الحدث: طارقٌ يطرق باب الدار، فيذهب الخادم ليرى مَن الطارق، فإذا هو شاب زريُّ الهيئة رثُّ الثياب يطلب مقابلة الشيخ. ولما رآه مَن في الدار ظنوه عابر سبيل جاء يطلب صدقةً لما يبدو عليه من رثاثة الثياب وشدة التعب.

فقدموا لها طعاماً، فأكله بشهية كأنه لم يذُق طعاماً منذ مدة طويلة. 

وبعد انتهائه من الأكل لم ينصرف، بل أصرَّ على مقابلة الشيخ.

ولما قابله الشيخ فوجئ حين عرَّفه ذلك الشاب بنفسه، وأن اسمه «محمد الصوابي الديب»، وأنه متخرج من كلية الشريعة جامعة الأزهر، وأحد متطوعي الإخوان المسلمين في حرب فلسطين، وأنه مطلوبٌ القبض عليه بسبب انتمائه للإخوان، وأنه قد مكث أكثر من شهر هارباً، يتخفى في النهار بين المقابر، وفي الليل يخرج ليقتات الطعام.. ثم قال: (لقد كرهت الحياة بين الأموات، وأريد أن أعيش بين الأحياء،فهل تقبلني؟).

وبحسب ما ذكرت مجلة الدعوة المصرية في عددها الصادر في (جمادى الثانية 1397هـ- مايو 1977م) -على لسان الشيخ نفسه- فإنه لمّا سمع ذلك من الشاب أصابه الذهول، فقد كان يعلم ما يمكن أن ينال مَن يتستر على شخص كهذا من الاعتقال والتعذيب والمحاكمات.

استأذن الشيخ من الشاب وذهب إلى أولاده يستشيرهم، ويبلغهم بما قاله ذلك الشاب، وأنه يرى أنه صادق في قوله، ولكنه يخشى عليهم ما يمكن أن يقع عليهم في حال اكتشاف وجوده في بيتهم.

فكان جوابهم بالموافقة على مساعدته وإيوائه.

وبحسب ما نقلت المجلة المذكورة عن الشيخ مخلوف فإن ابنَه -الدكتور علي مخلوف- قال له بعد فترة صمت: (افعل ما تراه من الناحية الإسلامية، والله يتولانا جميعاً).

وبالفعل بقي هذا الشاب معهم بعد أن غيَّروا هيئته، وأطلقوا عليه اسماً جديداً هو «صادق أفندي». وعينه الشيخ سكرتيراً خاصاً له، وخصص له غرفة منفصلة بحديقة منزله.

وكان يدخل ويخرج معه على أنه سكرتيره الخاص.

ويقول الشيخ حسنين مخلوف إن ذلك الشاب قد كان بالفعل سكرتيراً ممتازاً، وإنه عاونه في إصدار الكتب التي أخرجها في تلك الفترة ومنها: «كلمات القرآن: تفسير وبيان»، و«صفوة البيان في معاني القرآن».

وفي صيف ١٩٥٥م، وبعد أن قضى ذلك الشاب ثمانية أشهر مع الشيخ مخلوف، قرر أن يسافر للعمل في السعودية.

وحاول الشيخ إثناءه عن ذلك خوفاً عليه، لكنه أصر على السفر لكي يستريح من القلق التي يعانيه.

وبالفعل توجه للسفر، وأرسل الشيخ مخلوف رسالةً إلي مستشار الملك سعود ليهيئ له عملاً عند وصوله إلى هناك.

ولكنه لم يصل إلى السعودية فقد قُبض عليه وهو على متن الباخرة التي كان يستقلها من السويس إلى جدة، وذلك بوشايةٍ من شخص عراقي كان قد وعده بأن يساعده في سفره.

ولما علم الشيخ وأولاده بذلك هيئوا أنفسهم لما يمكن أن يحدث إذا عُرف أن هذا الشاب كان مختبئاً عندهم.

ويقول الدكتور علي مخلوف: (كنتُ خائفاً على والدي الشيخ حسنين مخلوف، فهو قد جاوز الستين من عمره، ولا يستطيع تحمل أهوال السجن الحربي، ولذلك كنت أنا وزوجتي لا نفارقه ليلاً أو نهاراً، متوقعين في كل لحظة مداهمة الشرطة لمنزلنا).

ومرت الأيام ولم تداهم الشرطة منزلهم كما كانوا يتوقعون، إلى أن ذهبت زوجة الدكتور علي مخلوف -وهي ابنة المستشار حسن الهضيبي- لزيارة والدها في سجنه، فسألته عن «محمد الصوابي»، فأخبرها أنه قد قُتل جراء تعرضه للتعذيب الشديد في السجن الحربي.

وأن الذين كانوا يعذبونه لم يكونوا يسألونه إلا سؤالاً واحداً فقط: «أنت كنت فين»؟! فلا يجيبهم إلا بآيات من  القرآن، حتى كسروا عموده الفقري، وبرزت ضلوعه، وكان تمرجي السجن (أي الممرض) يخرج من مكان تعذيبه وفي يده صفيحة مملوءة بالدم.

يقول الشيخ مخلوف بحسب ما جاء في عدد مجلة الدعوة المشار إليه: (لم أكن أتوقع أبداً أن يتحمل الشهيد محمد الصوابي الديب التعذيب الذي لا يصدقه عقل من أجلي،لم أكن أتوقع أن يضحي بحياته من أجلي، حقاً هذه هي تربية الإسلام).

رحم الله العالم الجليل الشيخ حسنين مخلوف،وجزاه عن الإسلام وأهله خير الجزاء.

ملاحظة :

[العدد المشار إليه من المجلة المذكورة صدر في حياة الشيخ مخلوف، وقبل وفاته رحمه الله بأكثر من ثلاثة عشر عاماً، ولم يرد عن الشيخ، ولا عن أحد من أهل بيته نفيٌ أو تكذيب لشيء مما ورد فيه]. 

د. عبد الآخر حماد

13/ 2/ 1445هـ- 29/ 8/ 2023م

Please follow and like us:
د. عبد الآخر حماد
عضو رابطة علماء المسلمين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

قناة جريدة الأمة على يوتيوب