مقالات

د. محمد الأسطل يكتب: قصتي مع «في ظلال القرآن»

كنت قد ذكرت قصتي مع كتاب «في ظلال القرآن» قبل سنين عددًا، لكني اليوم وفي ذكرى وفاة الأستاذ سيد قطب رحمه الله أعيدها من جديد بمزيد تفصيل.

وأستهل القول بأني لم أكن في مقتبل شبابي معتنيًا بالقراءة أو الطلب، وكنت أسمع بين الفينة والفينة اختلاف الناس في الظلال وصاحبه، فكان الذي يدور في نفسي أنه لا حاجة لي في قراءة كتابٍ يختلف الناس فيه، فالتفاسير كثيرة، وما يتفق الناس عليه فيه غنيةٌ عما يختلفون فيه.

ثم إني لو آثرت النظر فيه رغم ما يقال عنه فإني غير معتنٍ بالقراءة أصلًا، فأنا بعيدٌ عنه أشد البعد، لكني في الجملة في نفرةٍ عنه.

وفي ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان من عام 1431 هـ -فيما أحسب- كنت معتكفًا بمسجد الأبرار بمنطقة القرارة، وجاء فضيلة شيخنا د. يونس الأسطل وألقى كلمةً إيمانيةً بين ركعات القيام.

وكنت أستمع للكلمة وأنا تحت تأثير سطوة جماليات القرآن والحديث عنه والحياة في ظلاله، وكنت أبتسم طيلة الكلمة دهشةً مما أستمع والشيخ يلاحظ مني ذلك.

فلما انتهى قلت له: يدفعني الفضول أن أسألك: ما المراجع التي رجعت إليها في تحضير هذه الكلمة؟!

فقال: كلها مستوحاة من مقدمة الظلال!

فكان جوابه صدمةً حقيقيةً لي؛ فالكلام الذي استمعت إليه أعظم من أن يُختلف فيه، لكني قررت أن أشتري الكتاب وأقرأ فيه، وآخذ رأيي فيه مباشرة.

وبالفعل عقب الاعتكاف ذهبت إلى مكتبة آفاق بغزة واشتريت نسخةً، وأخذت أقرأ، وهالني ما جاء في أول الكتاب من أنَّ هذه هي الطبعة الشرعية للكتاب.

ووجدت في الصفحات الأولى منه كلمةً مثبتةً لأخيه الأستاذ محمد قطب رحمه الله يخاطب بها دار الشروق ويعهد إليها أمر الطباعة، ويقول: «لقد آن للكتاب أن يأخذ وضعه الطبيعي في يد ناشرٍ أمين، يُقدِّر أنه ناشرُ فكرٍ قبل أن يكون جامعَ مال».

ثم إن النسخة التي اشتريتها كانت من الطبعة السابعة والثلاثين للكتاب!

والمعتاد في الطبعات أن تبلغ ثلاثًا أو أربعًا، وبعض الكتب تصل إلى عشر، وبعض الكتيبات قد تصل إلى هذا العدد، لكن الكلام عن تفسير ضخم، فوصوله لهذا العدد شيء كان يمثل صدمةً مستقلةً لي.

وبدأت أقرأ في الكتاب، وكنت حديثَ عهدٍ بالقراءة والطلب، وكان وقع القراءة عليَّ شديدًا جدًّا، لقد عشت مع الكتاب وحلَّقت روحي معه.

لقد كان يعرض التفسير في الثوب الموضوعي، ولعل أعظم ميزة كنت أحس بها أنه استطاع أن يتوغل في فهم النفوس البشرية زمن التنزيل، فكان يحاول أن يُدخلك البيئة المكية والمدنية حتى لكأن القرآن يتنزل الآن.

وأعظم ميزة في الكتاب من جهة الثمرة أنه يغرس مادة العقيدة في القلب غرسًا مكينًا بعيدًا بعيدًا، بحيث يكسبك الانتماء لهذا الدين والغيرة له والقتال من أجله، فتصبح كأنك عضو من أعضاء الجماعة المسلمة الأولى، قضيتك الكبرى هي التوحيد، ومهمتك الكبرى في الحياة نشر هذا التوحيد في الناس.

وتبقى تترقى في هذه المشاعر حتى تكاد تشعر مع الأيام بأنه لولا الفاصل الزمني لكنت واحدًا من أهل الجيل الأول.

وكان الأمر يبلغ بي في بعض المواضع أني كنت أتصرف تصرف الأطفال بحيث أكتب على ناصية الصفحة: هذه الصفحة أغلى من مليون دولار أو مليار وما أشبه ذلك!

ومن المستظرف أني حين كنت أقرأ كنت أغلق عليَّ بابي، فكانت زوجتي تناديني أحيانًا فلا أقطع ما أنا فيه، فلما كان ذات يوم قالت لي: أشعر أنك في غرفتك حرٌّ وأني في بقية البيت في سجن!

وفي عام 1432 هـ يسَّر الله لي الحج، ومن المواضع التي يُجاب فيها الدعاء الصفا والمروة، فكنت أدعو الله ألا يقبضني قبل أن أتم الظلال؛ استحياءً منه سبحانه وتعالى أن أخرج من الدنيا قبل أن أفهم كلامه وأعيش معه.

ولعل القارئ يرى أني أبالغ في مقالتي هذه، وهذا من حقه، لكني أتكلم عن شعوري الشخصي حين كنت أقرأ في الكتاب.

ولعل من أسباب ذلك: تعلقي بعلم التفسير على النحو الذي جاء الظلال فيه.

ثم شاء الله أن أطِّلع على اختلاف الناس في الظلال، وظهر لي أن الخلاف راجعٌ للمنزع الفكري والحزبي؛ فمن كان من الإخوان كان مبجِّلًا للظلال، ومن كان من خصومهم كان بعيدًا عنه وربما مزدريًا له منفِّرًا عنه.

أما أنا فيسر الله لي أن التعلق به كان من جهة المادة والمضمون، فأحمد الله أنَّ دخولي إليه كان على هذا النحو الذي ذكرت.

وإحدى كلمات السر في فهم الظلال أن تقرأ السورة قطعةً واحدة، بحيث تجمع عليها همَّك وعقلك وقلبك، وخذ مثالًا بسورة البقرة؛ فإني أعظك أن تقرأها منه وأنت في ذهنٍ خالٍ مما يردده الناس عن الظلال سواء في جانب التضخيم أو في جانب التقزيم.

ولو كان ذهنك خاليًا فإن قراءتك لتفسير سورة البقرة يعرفك بالكتاب ومنهجه والطريقة التي ينبغي أن يُعتنى بالقرآن بها.

وقد ذكرت في غير موضع أن أعظم التفاسير عندي ثلاثة: تفسير الطبري، والتحرير والتنوير، والظلال، فكلٌّ منها بمثابة المسار الذي لا يغني عنه غيره.

وأما ما في الظلال من ملاحظاتٍ كتَبَنِّي صاحبه للقول بتأويل الصفات من مدخلٍ بلاغي كشف عنه في كتاب: «التصوير الفني في القرآن».. فكلٌّ يؤخذ منه ويرد عليه إلا صاحب القبر، ثم إنه ليس أول من فسَّر القرآن وهو يحمل هذا المعتقد، فالناس تقبل التفاسير مع اختلاف منازع معتقد أصحابها.

وإني لست على هذا المذهب العقدي؛ بل على مذهب أهل الحديث، لكن هذا لا يخدش جلال مادة التفسير التي قدَّمها سيد في الكتاب، كما أنه لا يمس جمال غرسه لمادة العقيدة في النفوس، فقد رأيت من يقول: إن التفسير عظيم إلا أنَّ مادة العقيدة لا تؤخذ منه!

وهذا نظرٌ سطحيٌّ شديد؛ إذ إن قائله قد حصر العقيدة في القول في مبحث الأسماء والصفات، بل إني أرى أن من أعظم حسنات الظلال شدة غرسه لمادة العقيدة في النفوس.

وقد ازدان ذلك بالخاتمة التي أكرم الله بها عبده سيدًا، والذي قضى نحبه شهيدًا في مثل هذا اليوم 29-8 من سنة 1966 ليكون من شهداء العلماء.

أسأل الله أن يتقبله عنده ويغفر له ويرفع درجته ويُعظم الانتفاع بكتابه.

د. محمد الأسطل

من علماء غزة وفقهائها

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى