مقالات

د. حاكم المطيري يكتب: الفرق بين البخاري وصحيحه

هل الإمام البخاري معصوم عن الخطأ فيما صنفه في كتابه الجامع الصحيح؟ أليس احتمال الخطأ وارد في روايته؟ نرجو شيخنا تفصيل القول في ذلك لغير المتخصصين في علوم الحديث من المثقفين.

– نعم ليس البخاري معصوما لا في رأيه واجتهاده، ولا في روايته ونقله، فهو بشر يصيب ويخطئ، وإنما المعصوم هو الإجماع على صحة السنن والأخبار التي أوردها في كتابه (الجامع الصحيح)، فالبخاري شيء، والعلم المحفوظ الذي أودعه في كتابه وأجمع الأئمة على صحته شيء آخر، فالأئمة وعلماء الأمة قبل البخاري من الفقهاء والقضاة والمحدثين والمفسرين والإخباريين، من الحجازيين أهل الآثار والمباني، والعراقيين أهل الفقه والمعاني، مجمعون على قدر كبير من السنن والأخبار القطعية عن النبي ﷺ لا يختلفون في ثبوتها وصحتها -وإن اختلفوا في فهمها وتأويلها- لتواترها وشهرتها، سواء بين عامة المسلمين، أو خاصتهم من أهل العلم من أئمة المدرستين الشهيرتين آنذاك وهما: مدرسة أهل الحجاز (المدينة ومكة)، ومدرسة أهل العراق (الكوفة والبصرة)، وقد صنف أهل كل مدرسة كتبهم، وما اشتهر من الحديث عندهم عن شيوخهم، ومن أشهر الكتب في أوائل القرن الثاني (جامع معمر)، و(جامع ابن جريج)، و(موطأ مالك)، و(موطأ ابن أبي ذئب)، و(جامع ابن عيينة)، و(جامع الثوري)، و(كتب شعبة)، و(مصنف حماد بن سلمة)، و(سنن سعيد ابن أبي عروبة)، و(كتب الليث بن سعد)، و(كتب ابن المبارك) وغيرها كثير، بالإضافة إلى الكتب والصحف المشهور غير المصنفة وغير المرتبة التي كانت متداولة منذ عهد الصحابة والتابعين.

‏وقد اشتهرت تلك الصحف والكتب والمصنفات والجوامع والمسانيد، قبل كتاب البخاري بنحو قرن، وكانت هي أهم المصادر العلمية آنذاك، فجاء البخاري وقرأ كل هذه الكتب والصحف والمصنفات والجوامع والمسانيد على شيوخه، وجمع أصح ما فيها، مما أجمع أهل العلم على صحته، دون ما تنازعوا واختلفوا فيه، فلما اطلع شيوخ البخاري وأهل عصره على كتابه، وجدوا أنه فعلا التزم بعنوان كتابه (الجامع المسند الصحيح المختصر)، إذ كل المصادر التي نقل منها البخاري متاحة بين يدي أهل العلم قاطبة، بل وأكثرهم كان يحفظها عن ظهر قلب، فليس هناك مجال للشك في أمانة البخاري ودقة نقله من تلك المصادر، وكثير منها مطبوع مشهور وبالإمكان مراجعتها كموطأ مالك وجامع معمر ومصنف عبد الرزاق.

‏وقد نقل عن هذه المصادر نفسها مئات الأئمة قبل البخاري من شيوخه كالإمام أحمد في المسند، وإسحاق بن راهويه في المسند، وابن المديني في المسند، وابن أبي شيبة في المصنف، أو شيوخ شيوخه كعبدالرزاق في المصنف، ووكيع في الجامع، أو من جاء بعد البخاري كمسلم وأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والطبري والطحاوي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم والبيهقي وغيرهم، وقد رووا تلك الأحاديث نفسها التي رواها البخاري عن تلك المصادر حرفيا.

‏وبقي البحث فقط في هل فعلا تلك الأحاديث متفق على صحتها أم فيها اختلاف، وهذا يرجع في معرفته إلى أئمة المدرستين الحجازية والعراقية، وقد أجمعوا فعليا وعمليا على صحة ما في البخاري من حيث العموم، ولهذا صار مرجعا لكل المذاهب الفقهية المشهور يحتجون به ويستدلون على صحة الحديث بتخريج البخاري له، لاتفاقهم على أن ما جمعه البخاري في كتابه من السنن والأخبار هو مما أجمع الأئمة قبله على صحته.

‏فالمعصوم من الخطأ هنا ليس الإمام البخاري، بل إجماع الأمة والأئمة -قبل البخاري ثم في عصره وبعده- على ثبوت تلك الأحاديث ثبوتا قطعيا، كما أجمع المسلمون على ثبوت ما بين دفتي المصحف ثبوتا قطعيا، وإن كان كتاب الوحي أنفسهم وقراء القرآن بشرا غير معصومين، فالمعصوم هو إجماعهم.

‏وكذا فعل الإمام مسلم في صحيحه واقتدى بالبخاري، وصرح بذلك في كتابه فقال: (ليس كل شيء عندي صحيح وضعته ها هنا إنما وضعت ها هنا ما أجمعوا عليه).

د. حاكم المطيري

الأمين العام لمؤتمر الأمة ورئيس حزب الأمة، أستاذ التفسير والحديث - جامعة الكويت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى