مقالات

عامر شماخ يكتب: «إلى الذين يستصغرون أنفسهم أمام الآخرين»

لقد كُتبتْ مقادير كل شيء، ورُفعت الأقلام، وجفّت الصحف، وتحدد كلٌ من الرزق والأجل؛ (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) [الذاريات: 22، 23]، (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا…) [آل عمران: 145] ولم يبق للإنسان سوى السعي -قدر الطاقة- دون جزع أو هلع، واثقًا مما في خزائن الخالق -جلّ وعلا- غير مستصغر نفسه، أو مقلل من شأنه، موقنًا بأن كل شيء بمقدار؛ الضيق والسعة، والبأساء والضراء..

فإن نسي ذلك ولجأ إلى إنسان مثله لا يملك من أمر نفسه شيئًا فقد عصى ربه، وعرّض نفسه للمهانة والاحتقار؛ (إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [العنكبوت: 17].

لقد انحرفت البشرية، بعدما تنكبت صراط الله المستقيم، وزاغت عن سبله الراشدة، فذاقت وبال أمرها؛ (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم: 41]، وكان أول الانحراف أن طغى ناسٌ من البشر، واتخذوا من بني جنسهم طائفة، استذلوهم وجعلوهم عبيدًا لهم، فجاء الإسلام ليلغي كل أشكال الرق، وليحرِّم الظلم، والطغيان والاستبداد، وليرد الناس إلى أصلهم الذي غاب عنهم.. «يا أيها الناس، الرب واحد، والأب واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب» [أحمد].

لقد نهى النبي ﷺ أصحابه عن القيام إذا دخل عليهم كما يفعل العبيد مع أسيادهم، ونهاهم عن الوقوف على رأسه وهو جالس، ونهاهم عن الانحناء له، ونهاهم أن يقول أحدهم لمملوكه (عبدي وأمتي)، بل يقول (فتاي وفتاتي)، وعلل ذلك بقوله: «.. كلكم عبيد الله، وكل نسائكم إماء الله» [مسلم].

وإن انحراف النصارى نشأ أول ما نشأ، من تقديسهم لعيسى ابن مريم، والمبالغة في إطرائه والثناء عليه، حتى ألحقوا به صفات هي من صفات الله، وعيسى -عليه السلام- بريء مما قالوا.. فلا يزالون يفعلون ذلك حتى جعلوه إلهًا من دون الله -تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا-؛ ولهذا حذر النبي ﷺ من ذلك بقوله: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، إنما أنا عبد الله، فقولوا عبد الله ورسوله» [البخاري]، وقال ﷺ: «اللهم لا تجعل قبري وثنًا يُعبد، اشتد غضب الله على قومٍ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» [مالك].

ألا فليعلم الذين يستصغرون أنفسهم أمام الطغاة والمستبدين، أن بتوحيدهم ثلمة، لا يُذهبها إلا التوبة والرجوع عن هذا النوع من الشرك.. لقد تنبه الإنسان الجاهلي الذي تربى على عبادة الوثن، إلى فضل الفطرة التي ترجِّح العقل وتحرِّم العبودية والاسترقاق، فكفر باللات والعزى اللتين ظل يعبدهما لقرون، وأيقن أن الله هو الباقي وأنه هو من يستحق العبادة دون سواه.. يقول زيد بن عمرو بن نفيل، الذي اعتزل عبادة الأصنام في الجاهلية:

(عَزَلْتُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى جَمِيعًا… كَذَلِكَ يَفْعَلُ الْجَلْدُ الصَّبُورُ؛ فَلَا الْعُزَّى أَدِينُ وَلَا ابْنَتَيْهَا… وَلَا صَنَمَيْ بَنِي عَمْرٍو أَزُور؛ُ وَلَا هُبَلًا أَدِينُ وَكَانَ رَبًّا… لَنَا فِي الدَّهْرِ إذْ حِلْمِي يَسِير؛ُ عَجِبْتُ وَفِي اللَّيَالِي مُعْجَبَاتٌ… وَفِي الْأَيَّامِ يَعْرِفُهَا الْبَصِيرُ؛ بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَفْنَى رِجَالًا… كَثِيرًا كَانَ شَأْنَهُمْ الْفُجُورُ).

ولقد تعاهد أهل مكة، في الجاهلية، على ألا يجدوا بمكة مظلومًا من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس، إلا قاموا معه وكانوا على من ظلمه، حتى تُرد عليه مظلمته.. وهذا هو (حلف الفضول)، الذي أشار إليه النبي ﷺ قائلاً: «لقد شهدتُ في دار عبــد الله ابن جدعان حلفًا، ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أُدعى به في الإسلام لأجبتُ» [البيهقي].

إن أفضل تكريم للإنسان، أن جعله الله عبدًا له، فلا يكون سجوده إلا له، ولا يكون ثناؤه وتسبيحه إلا بأسمائه العُلى؛ فالعز كل العز في العبودية لله وحسن طاعته، والذل كل الذل في الركون إلى البشر، والخوف منهم، وربط الأرزاق والآجال بهم.. عن النبي ﷺ: «آية العز: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرً [أحمد].

عامر شماخ

كاتب صحفي مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى