د. عاطف معتمد يكتب: في سيناء.. حين تمس يداك 500 مليون سنة!
في مارس 2013 قمت برحلة نادرة إلى منطقة قبليات- جبل الناقوس في غرب سيناء.
أخذت الصورة المرفقة من تكوين جيولوجي نادر لم يمسه باليد سوى ثلة قليلة من الجغرافيين والجيولوجيين في العالم.
ولا يعود تفسير هذا التفرد في الوصول هنا إلى الصعوبة الكبيرة، والكلفة المالية، والخطورة الأمنية، وصعوبة الاستكشاف والمغامرة فحسب، بل يرجع ذلك أيضا إلى أنك حين تضع يدك على هذه الصخور فإنك تلمس صخرا نادرا يعرف على الخرائط باسم تكوين “عربة”.
يعود هذا التكوين الجيولوجي إلى الزمن الكامبري، وهذا اسم لو تعلمون عظيم.
فصخور مصر تصنف زمنيا إلى حقبتين كبيرتين: حقبة ما قبل الكامبري، أي كل الصخور النارية المندفعة من باطن الأرض؛ وحقبة الكامبري وما بعدها وتضم الصخور التي تكونت فوق سطح الأرض.
وأبو يحيى (من قبيلة العليقات) الذي يضع يده على هذه الصخور يمس صخورا من عصر الكامبري، يعود عمرها إلى 500 مليون سنة!
يحمل هذا التكوين الجيولوجي اسم “عربة”، وتخبرنا المعاجم اللغوية أن كلمة عربة هي نفسها التي نقولها اليوم على السيارة، فنقول “عربة” و”عربات” قاصدين تلك المركبات المسرعة.
ومن عجب أن أشهر شارع في موسكو يسمى شارع “أرباط” ويرجع بعض اللغويين الروس أن الاسم أصله “عربات” لأن عربات الخيول كانت تمشى في هذا الشارع الكبير، والكلمة جاءت روسيا من الأثر الشرقي العربي الإسلامي.
دعنا نبقى هنا في سيناء ولا نذهب بعيدا إلى موسكو.
نحن هنا في وادي “عربة” والوادي إذا كان عربة فإن سرعة المياه فيه وقت السيول تكون مندفعه شديدة.
ولذلك تجد اسم وادي عربة منتشرا في أماكن كثيرة في فلسطين وسيناء والصحراء الشرقية.
في هذه الرحلة التي قمت بها في 2013 (ورافقني تلميذي سابقا صديقي حاليا د. صالح رجب) تعرضنا لعاصفة ترابية حالت دون وصول الصورة إلى الجودة المطلوبة.
كيف تتكون هنا عاصفة ترابية؟
الحقيقة أن منطقة جبل عربة في غرب سيناء بها حقول من كثبان الرمال التي تصبح ألعوبة في يد الرياح الشمالية.
ويرجعنا هذا إلى صعوبة هذه المنطقة في الزيارة الميدانية، ولم يكن بوسعنا الوصول إليها إلا بفضل سيارة أبو يحيى التي تعرف كيف تغوص في الرمال وتصعد منها.
وأبو يحيى صديق وأخ غال وعزيز من قبيلة العليقات.
والعليقات من أكثر قبائل سيناء عراقة، وتعود إلى قبائل ربيعة من شبه الجزيرة العربية التي اختارت الوفود إلى وادي النيل وسيناء.
ومن خلال معرفتي بعدد من قبائل سيناء، في الجنوب والشمال، بوسعي القول إن العليقات من أكثرهم قربا إلى الاستقرار وأكثرهم فهما وإدراكا وذكاء وأصالة. علاوة على أنهم يعرفون كيف يتعاملون مع الباحثين الوافدين من وادي النيل، من أمثالي.
كنت قد تعرفت على أبو يحيى في بحث سابق قمت به في منطقة مناجم الفيروز والنحاس في غرب سيناء. وصرنا نسافر بسيارته إلى كافة أنحاء سيناء، إلى كاترين والعقبة وسرابيط الخادم.
واستفدت من حلو معاشرة أبو يحيى، وخبرته الميدانية، لأنه عمل فترة من حياته في شركات الرمال البيضاء التي تقدم أهم خامات صناعة الزجاج الفاخر في العالم.
أبو بحيى يلمس هنا بيده صخورا يعود عمرها إلى 500 مليون سنة. وكما ترى في الصورة فهي مؤلفة من طبقات رقيقة من الحجر الرملي والطيني متغاير الألوان، معه طبقات بينية غنية بمعادن الحديد.
ومن المدهش أن علماء التحليل الميكرسكوبي لهذه الصخور اكتشفوا فيها أثار كائنات حية كانت تعيش هنا قبل هذه المئات من ملايين السنين على نحو ما توضح الحفريات الحيوانية طولية الشكل (حتى 35 سم) المعروفة باسم Skolithos وCruziana وهي كائنات دقيقة عاشت في المياه الضحلة: المالحة والعذبة.
يقولون إن الإنسان لا يحصل على كل شيء، حتى في الرحلات العلمية، فالصور التي معي من هذه الزيارة النادرة، حالت الظروف الجوية دون وضوحها، وحين تحسنت الظروف الجوية اكتشفت أن الرمال والغبار الذي هب علينا أفسد عدسة الكاميرا وأخرجها من الخدمة نهائيا، فلم تعد تعمل بوضوح، ومن ثم لم نحتفظ من هذه الرحلة العظيمة (ثلاثة أيام) سوى ببعض صور قليلة واضحة بكاميرا متواضعة كانت مع د. صالح.
ورغم ذلك، فإن أفضل الصور عن هذه المنطقة قد انطبعت بالفعل: في الروح والعقل والانتماء العضوي للمكان.
عشر سنوات منذ تلك الرحلة.. وأشعر في هذه الأيام كأنها كانت بالأمس، بل كأنها تمر أمام عيني الآن… في هذا الصباح الباكر!