عنتر فرحات يكتب: «البيان العربي».. و«قناة الجزيرة الإعلام الغربي»
نستفتح بسؤال:
أين تكمن قوة قناة الجزيرة والإعلام الغربي هل هي في المصداقية والمهنية أو في قوة البيان والاتقان في استعمال أدوات الاقناع؟
-لكل حضارة غابرة أو بقيت شيء من آثارها كان هناك سمات ومعالم تمتاز بها عن غيرها من الأمم بل حتى صار ذلك الوصف سمة ونياشين مرصعة على جدارياتها التاريخية من فلسفة اليونان وحكمة الصينين وجبروت روما وبراغماتية الفرس إلا الإنسان العربي فقد كانت صفته ووسمه في البيان الذي اختص وامتاز به، بل كان يعتبر (البيان) صفة كمال وجمال للرجل بل للقبيلة، لذلك لم يكن النصر السياسي أو الاقتصادي أو العسكري تاما إذا لم يرصع بقصائدة طوال تحكي تفاصيل وجزئيات تلك الأحداث، وهذا ما جعل للشاعر العربي سيادة معنوية في قومه، فـ عنترة بن شداد قبل أن يحرره سيفه حرره بيان لسانه، وهذا ما يستحق درسا وبحثا خاصا، لماذا لم يكن عنترة من الصعاليك وقد توفرت فيه كل أسباب الصعلكة؟
-وسببه المباشر أنه توفرت فيه صفتان من صفات القوة: القوة المعنوية المتمثلة في البيان، والصفة الثانية والتي بها اشتهر وعرف (السيف).
-واهتمام العرب بالبيان جعل للشاعر تلك المكانة الكبيرة في قومه، ولكن مكانة الشاعر لم تقل عن حروب قومه، فـ عنترة كما كان بطل معارك كان أيضا بطل بيان، وإن كانت انتصارات تغلب تتوالى حتى كادت أن تبيد بني بكر إلا أن عُبيد بن الأبرص انتصر على عمرو بن كلثوم في حضرة الملك، وحكم له ولقومه، فبيان الحارث بن حِلِّزة اليشكري لم يكن أقل من سيوف قومه في نصرتهم ضد التغلبيين.
-وعزة وأنفة العربي لم يكن في المعارك وحسمها بل جعل معركة البيان لا تقل عن معارك الميدان، وإن كانت العرب قد جعلت الأشهر الحرم تعظيما للبيت وشهرٌ فيه ترجب السيوف، ولكن فيه أيضا تُسل سيوف ألسنة الشعراء، وما عكاظ وذي المجنة عننا ببعيدن، وقصة حسان بن ثابت والنابغة الذبياني والخنساء أكثر صورة توضح لنا الاهتمام الكبير للعرب بالبيان، ويرسخه القصائد الطوال التي عانقت أستار الكعبة.
-بل لم يكتف النقاد قبل الإسلام بالبيان من حيث إنه بيان فقط بل نظروا إلى القيم التي كانت راسخة في عرف العربي وإنها سمة يجب على الشاعر أن يلتزمها، لأنها امتداد لأخلاق العربي، وهذا ما شكل أول عنصر خلاف لدى النقاد هل البيان مرتبط بالأخلاق أو البيان (مهما يكن) هو المقدم.
-وهذا ما يفسر لنا سبب اختلاف النقاد في تقديم أشعر الجاهلين ما بين امرؤ القيس والنابغة وزهير.
-وهذا الاختلاف في تقديم أيا من الشعراء كان مرجعيته الأساسية القيم التي امتاز بها العربي، وامتد هذا الصراع النقدي حتى مع بزوغ الإسلام وامتد حتى القرن الثالث هجري.
-لذلك في القرن الثاني كان الصراع شديدا خاصة مع ظهور التيار الشعوبي المنحل والمنسلخ عن الأخلاق والقيم، هل يعتبر ممن أجاد الشعر أو لا يعتبر، لذلك ظهرت مدرسة جديدة وهي الاهتمام بالبيان ومدى قدرة الشاعر أو الخطيب على إظهار وبيان ما يريده، فالحكم على البيان غير الحكم على أخلاق الشاعر أو الخطيب.
وحجتهم في ذلك أن صاحب الباطل وإن كان أكثر بيانا فسيكون أثره أكبر في المجتمع وإن كان النقاد لا يقبلون كلامه، وصاحب الحق وإن كان أقل بيانا فلن يكون لكلامه معنى لأنه مفتقر إلى البيان.
-فالحق مهما يكن فهو يحتاج إلى بيان، والباطل لا يصرف إلا ببيان يدحض قوله قبل أن يدحض حجته؛ لأن الحجة تتزين ببيان قوي.
تسأل ما علاقة البيان والنقد بقناة الجزيرة والإعلام الغربي؟
-أي متتبع عربي للإعلام فمن دون تفصيل سيقل لك أن قناة الجزيرة أقوى قناة عربية وإن كنت أختلف معها 100% وأعتبرها مشروع خيانة.
-والأمر نفسه بالنسبة للإعلام الغربي وإن كنت لا تقبل روايته أو ما يطرحه لكن قوة بيانه تجعلك تتابعه وإن كنت ترى أن كل ما يبثه عبارة عن أكاذيب وأباطيل.
-مثلا قناة مثل ناشيونال جيوغرافيك، سواء توافق طرحها أو تخالفه لكن قوة أدائها تجعلك منجذبا دهشا أمامها.
وهذا تحديدا الذي تمارسه قناة الجزيرة، قوة كبيرة في الإقناع ومهارة في الأداء، ودقة في ترسيخ التفاصيل وامتياز جيد في توظيف الأدوات.
فمن الصعب جدا أنك تستطيع أن تقاوم كل هذه المميزات والإغراءات، لأنها فعلا لها تأثير كبير، وكل مخالف للقناة يتابعها ويشاهدها، وإن لم يعترف بهذا.
-تسال مرة أخرى ما علاقة هذا بالقيم والأخلاق؟
-نرجع للعهد العباسي أيام ظهور التيار الشعوبي، الجميع يعرف مُجون أبي نواس وخلاعة ابن برد، ولكنه لا يسطع أن يقاوم قوة أدائهما آوأن يمنع مسمعيه بجميل شعرها وإن كان مجونا وانحلالا، فالذي جذب المستمع ليس المجون بل قوة الأداء.
-وهو الأمر نفسه مع قناة الجزيرة ليس قوتها في المصداقية بل في قوة البيان وإن كان ما تطرحه باطلا.
-فقوة البيان ليس دليل وعلامة حق، كما أن ضعف البيان لا يعتبر صاحبه صاحب باطل، والأمر نفسه مع التيارات الإسلامية التي كانت لها منابر ودعم قوي، الباطل باطل وإن زينوه ببيانهم والحق حق وإن شوهوه ببيانهم أيضا.
كتبت المقال قبل عام
24 يناير 2023م