مقالات

د. حلمي الفقي يكتب: المحن والابتلاءات سنة كونية

الابتلاء سنة كونية فطر الله عليها الكون، والابتلاء أمر حتمي لا بد منه لكل إنسان، والابتلاء هو السبب الذي من أجله خلق الله الكون، قال الله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} (الملك: 2، 3)

فالله سبحانه وتعالى لم يخلق الخلق إلا ليبتليهم، ويختبرهم، ويمحصهم، هذا هو سبب خلق الإنسان، والابتلاء هنا بمعنى: الامتحان والاختبار وقد يظن إنسان أنه معافي من كل بلاء، وأن الابتلاء لمن لم يحسن التصرف، وأنه يجيد التصرف والنفاق فلذلك سلم من البلاء، وهذا وهم واضح، وخطأ ظاهر، فالابتلاء يكون بالخير، كما يكون بالشر سواء بسواء، فالله سبحانه وتعالى قد يبتلي عبده بالشر ليختبر صبره، وهذه يعرفها كل واحد منا، وقد يبتليه بالخير ليري أيشكر أم يكفر قال تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ الأنبياء: 35

فالابتلاء بالخير فتنة وامتحان، كما أن الابتلاء بالشر فتنة وامتحان وقال تبارك وتعالي حاكيا عن سليمان عليه السلام: {قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} (النمل :40).

فالنعيم الذي يرفل فيه الإنسان ليس إلا ابتلاء وامتحان من رب العالمين، وقد فطن سليمان لهذا الاختبار فسارع إلى شكر المنعم على ما أنعم وتفضل.

ولهذا يجب أن يعلم كل من دب على هذه الأرض بأنه لن يفلت من ابتلاءات الرحمن سبحانه وتعالى قال تبارك وتعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ. وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} (العنكبوت:2، 3)، فتدبر نص القرآن الكريم حيث قال الرحمن أحسب الناس، ولم يقل أحسب المؤمنون، ليعلمنا من خلال النص المقدس الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه أن الابتلاء لكل الناس، ولكن هل من الممكن أن تكون الجنة بلا جهاد وبلا ثمن وبدون تضحية، لا، لا جنة بدون دفع الثمن، قال عز من قائل: {أمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} (آل عمران:124) والله يعلم حالنا ولكنه يريد أن يعلمنا نحن، حتى لا تكون لنا شبهة، ولا علة، ولا أدني حجة، {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُم} (محمد: 31) فمرة ثالثة، ورابعة، وعاشرة يؤكد لنا المولي تبارك وتعالى أن الابتلاء حقيقة واقعة لا شك فيها، ففي هذه الآية يؤكد باللام والنون أن البلاء واقع لا شك فيه.

وقال تبارك وتعالى في سورة ال عمران: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (ال عمران :186) وهنا أيضا في هذه الآية تأكيد لوقوع البلاء باللام والنون.

في الابتلاء تمحيص واختبار، ليعلم أهل الصدق من أهل الكذب، وليعلم أهل الإيمان من أهل النفاق، وهنا قد يقول قائل: إن الابتلاء بالشر ونزول المصائب والبلاء لا يكون إلا لأهل الشر بسبب أفعالهم، وإجرامهم، وسوء صنيعهم، وفساد نياتهم، فلهذا تنزل بهم المصائب تلو المصائب، بسبب ما اقترفت ايديهم ولا يظلم ربك أحدا، وهذا القول من تزيين الشياطين، لأن نزول المصائب والبلايا يكثر على الصالحين لا علي المجرمين، ويشتد علي المصلحين ويقل علي المفسدين، وهذا مصداق لحديث سيد المرسلين، وأستاذ العالمين، محمد النبي الأمين، صلى الله عليه وسلم، حين سئل عن أي الناس أشد بلاء؟

قال: «الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى العبد على حسب دينه، فإن كان في دينه صلبا، اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة، ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد، حتى يتركه يمشي على الأرض، وما عليه من خطيئة» حديث صحيح

فنزول البلاء علامة على صحة الطريق، واشتداد الكرب دلالة واضحة على قرب النجاة يوم الدين نسأل الله المعافاة في الدنيا والآخرة.

د. حلمي الفقي

أستاذ الفقه والسياسة الشرعية المشارك بجامعة الأزهر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى