مقالات

شيروان الشميراني يكتب: خسارة أردوغان بين غضب الإسلاميين والتوجه القومي

نتحدث هنا عن نتائج الانتخابات البلدية التي جرت في تركيا في 31-3-2024، والتي رفعت إنذارا بوجه الحزب الحاكم، بداية لا بد من تسجيل الاعتراف بان الرئيس رجب طيب أردوغان قدم الكثير للاتجاه الديني الإسلامي والخدمات للشعب التركي، وهو الوحيد ربما في كل العالم استقر على كرسي الحكم في أعلى الهرم وبطريقة نظيفة بعيدة عن العنف بكل أنواعه لإثنتين وعشرين سنة كاملة، نجح في تعديل الكثير من الأعمدة المعوجة والظالمة في الدولة التركية، لكن لا بد أيضا من التأكيد على أن وصوله واستمراريته لم تكن نتيجة البرامج الخدمية للمواطن التركي، ففي كل انتخابات في منطقتنا خصوصا حيث الفكر والرؤية الكونية للحياة يكون عاملا دافعا وباعثاً للموالاة والمعادة ويأتي عادة في المرتبة الأولى من حيث التأثير على المواطن وهذه من الاختلافات بين الشرق والغرب، بما للدين من دور كبير في توجيه العقل والعاطفة للإنسان الشرقي، وشخصية مثل طيب أردوغان والفريق الذي عمل معه تاريخهم من هذا الجانب مشرّف ومحل اعتزاز. إلا أن الأمر لم يبق على ما كان عليه، فخلال السنوات الثلاث الماضية تغير بعض الأسس التي قامت عليه الرؤية السياسية لأرودغان، منها ما يتعلق بالخارج ومنها ما يتعلق بالداخل التركي، علما أن السياسة في العالم الراهن تتوحد قضاياها الداخلية والخارجية في غالب الأحوال وتتفاعل.

بعد ثورات الربيع العربي ونجاح الثورات المضادة، اضطر اردوغان بعد مقاومة طويلة وإفشال المؤامرات ضده لمسايرة الوضع الجديد الذي جاء منقلبا على الثورات، ثم جاءت طوفان الأقصى والحرب الظالمة التي يشنها المحتلّ الدولي على غزة، لكن المفاجأة أن الرجل جعل بينه وبين تلك الحرب فاصلا على عكس ما كان يتوقع منه وتصرف كأي دولة تقليدية لا تأبه لما يحدث سوى الصراخ الاعلامي، خضع كلياً للتهديدات الأميركية وجمد الجانب التصوري، فحصل التالي: –

١- خسر نسبيا التيار الإسلامي التركي، ليس الجناح المحافظ داخل المجتمع من الذين ينظرون الى الخدمات بالدرجة الأساس ثم الجانب السلوكي والاجتماعي، وإنما الجمهور الذي يتبى الرؤية الكلية الإسلامية للحياة ويتعاطى مع الأشخاص والأحداث من خلالها، لأن هؤلاء ينظرون إلى السياسة ويقيسونها بمقياس المصلحة المعتبرة دينيا، وخسر التيار الإسلامي العالمي الذي كان يدعمه دعما كاملا ويعملون لصالحه داخل تركيا ويوجهون السياسيين وأهل الرأي للوقوف معه ومساندته من أجل إنجاحه والمشروع الذي يحمله، وأعطوه بعدا عربيا وإسلاميا ودوليا كما خلقوا حوله هالة وعظمة، لكن «الحياد السلبي» الذي اعتمده تجاه الكارثة البشرية الكبرى في غزة التي لا يمكن لقلم التعبير عنها ولا لأديب صياغتها في عبارات فصيحة ولا لشاعر في أبيات بليغة، إزاء هذه الجريمة الكبرى لم يفعل شيئا وكان بمقدوره فعل الكثير، أصبح كأي رئيس آخر تفكيره إنحصر في دفع البلاء عنه، مع أنه ليس شرطا لدعم غزة الذهاب إلى الحرب المباشرة على الأرض أو في السماء، كان بالمقدور تعليق العلاقات مع إسرائيل وهو أدنى من قطعها وغلق الطريق أمام البواخر والسفن التي تسير في المياه التركية صوب إسرائيل من دون تفتيش، أو غلق الموانئ التي تستخدمها إسرائيل لاستيراد البترول،- 40% من البترول الذاهب الى إسرائيل يمر عبر ميناء جيهان التركي-، هذه مطالب دعاة المشروع الإسلامي وجمهوره، وهم جبهة شعبية متجذرة وعريضة في تركيا، فهو لم يفعل شيئا وتجاهل رغباتهم المبدئية كما تعامى عن كتاباتهم، جاءه الإنذار المكتوب غير المباشر من صديق له قديم، وأخ له مقرب، وهو الدكتور «محمد غورماز» رئيس الشؤون الدينية التركية السابق والعالم المعروف، فقد كتب غورماز على شبكة التواصل الاجتماعي ما نصه

«كل دولة من الدول الإسلامية، وكل قائد من قادة العالم الإسلامي لديه عذر ما للتأخر في عون إخوانه، صدق فيه أم لم يصدق، إلا أنني أقول لهم جميعا، إن المصالح السياسية والمناورات الدبلوماسية والغزوات الإعلامية لن تنقذ أحدا منكم من حساب يوم القيامة، حين يقف أحدكم بين يدي الله فردا واحدا فيسأله عن مذبحة حصلت على أبوابه فسمع صوت إخوته يقتلون، فلم يخرج خوفا على نفسه وملكه»،

أي تحمل آلام شعب غزة والبقاء متفرجا والرضى بالموقع المتخلف من أجل الحفاظ على الملك، وقدر الله سبحانه أنه لا أدى ما كان واجبا عليه تجاه غزة ولا تمكن من الاحتفاظ بملكه. أو هكذا تقول العلائم.

٢- إن تحالفه الاضطراري مع حزب الحركة القومية بزعامته التاريخية «دولت بهشتلي» سحبه إلى تبني الطروحات القومية الطورانية في الدائرتين الداخلية والخارجية، وأبعده عن الطروحات الإسلامية، حصل هذا مع الملفات القومية الداخلية التي تسيل الدماء جراءها، وحصل مع الملفات الخارجية والمقيمين العرب في تركيا، وحصل مع المعارضة السورية التي هي القريبة من تركيا ومحسوبة على أنها الجناح التركي في سوريا، حتى هؤلاء فإن البعد القومي حاضر في التعامل معهم، أي أن حزب الحركة القومية أعطى وجها قوميا متعصبا للدولة التركية خلال السنوات الماضية، على عكس خطابات الصوت العالي لقادة العدالة والتنمية التي تشدد على نبذ العنصرية، وأردوغان هدد أكثر من مرة على محاسبة الذين يضايقون غير التركي لكن من دون أثر لتهديداته ولا فائدة، وبذلك تحولت تركيا من الدولة والأرض التي انحصر الأمل فيها لرؤية نموذج إسلامي نهضوي إلى دولة قطرية طورانية تعمل من أجل تقوية الروابط مع أوروبا، وظهرت ملامح استثمار العدوان على غزة وتوظيفها من أجل ذلك، وموقفها من الملفات الشرق أوسطية هو ذاته الذي تأخذه الدول التقليدية التي لا ترجى منها خير. ففقدت الميزة والنكهة الخاصة التي جعلتها في موقع متقدم من منظور الأنصار والظهير الشعبي الذي لم يجفل من افتراش جسده أمام الدبابات المنقلِبة يوم 15 يوليو 2016 عند جسر الفسفور وداست الدبابات أجسادهم وأفرمتها. كان ذلك بابا لخسارته التيار الإسلامي الخارجي أيضا، ومن ثم إيذانا بأن اليد التي جاهدت من أجله سحبها صاحبها.

هذا لا يعني أن ليس للوضع الخدمي دورا ملحوظا في التأثير على نتائج الانتخابات، لكن الفائز ليس بأحسن منه، بل هو سيء، لم يقدم ما يذكر في إسطنبول لكنه فاز فيها للمرة الثانية. والآن أمام خسارة الجمهور الأساسي والسند القوي وخسارة المُلك يقف رجب طيب أردوغان، فأما أن يصحح اتجاه البوصلة، أو يكون الختام ليس مسكا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى