د. علي الصلابي يكتب: التوكل على الله والعمل الجاد من ثمار الإيمان بالقدر
إن جموع من المسلمين قد انحرفت في العصور الأخيرة في عقيدة القدر بشأن ما يجري في الحياة الدنيا، لقد أصابهم التواكل فيما أصابهم من انحرافات، وأدى بهم التواكل إلى العجز والكسل والقعود، لقد فهم -بعض الناس- من معنى أنه لا يحدث في الكون إلا ما يريده الله، أنه لا حاجة للإنسان أن يعمل، فإن قدر الله ماض سواء عمل الإنسان أو لم يعمل، فلا ضرورة للكد في طلب الرزق لأن: مالك سوف يأتيك، ولا ضرورة للنشاط والحركة لأنها في زعمهم ضد التوكل الصحيح، كما فهموا كذلك من معنى التسليم لقدر الله القعود عن تغيير ما أصاب الإنسان من فقر أو مرض أو جهل أو حتى معصية، لأن كل ذلك مقدر من عند الله فلا ينبغي مقاومته إنما ينبغي الاستسلام له! وهذا التواكل وهذه السلبية ليست من الإسلام في شيء على الإطلاق، وإلا فلو كانت من الإسلام فكيف غابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن صحبه الكرام الذين تلقوا عنه المفاهيم الصحيحة لهذا الدين؟
والفهم الصالح لم يفهم قط من عقيدة القدر هذا الفهم الخاطئ الذي يلغي مسئولية الإنسان عن عمله؟
لقد فهم المسلمون من درس أحد أن ما وقع لهم كان مقدراً لهم عند الله، ولكنه كان في ذات الوقت من عند أنفسهم بسبب معصيتهم للرسول صلى الله عليه وسلم:
{أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ}
(آل عمران: 165 ـ 166).
فقد وعى المسلمون من الدرس أن كون الهزيمة تمت بقدر الله لا ينافي أنها في ذات الوقت “مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ” أي: أن وقوع شيء بقدر الله لا ينفي مسئولية الإنسان عن خطئه، فليس لمخطئ أن يهز كتفيه ويقول: إنما وقع الخطأ مني بقدر من الله، ولقد قدّر الله ألا أخطئ لما أخطأت فلست مسئولاً عن الخطأ، كلا: إن الإيمان بالقدر لا يتنافى فيه أن يكون الحدث مقدراً من عند الله، وأن يكون الإنسان مسئولاً عن عمله في ذات الوقت.
كذلك وعى المسلمون من وقعة أحد وأحداثها درساً آخر، إن عليهم أن يسلموا لقدر الله، ولكن ما معنى التسليم؟ هل معناه القعود عن تغيير ما أصابهم، ولو أنه قد أصابهم بقدر من الله؟ إنما قال لهم:
{فَأَثَابَكُمْ غُمَّاً بِغَمٍّ لِّكَيْ لاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}
(آل عمران: 153).
فالحزن يفتت العزيمة ويوهنها، وهو الأمر الذي لا يريده الله لهم، فوجّههم إلى التسليم بقدر الله لكيلا يحزنوا وتتفتت عزيمتهم، ولكن هل طلب منهم الاستسلام لما أصابهم بمعنى عدم العمل على تغييره.
إن أحداث المعركة سارت في خط مختلف تماماً، فقد جمع الله الرسول صلى الله عليه وسلم مشاعر المسلمين وعزائمهم كما جمع صفوفهم ليدخل بهم المعركة مرة أخرى على أثر الهزيمة. وفي ذلك يقول الله سبحانه وتعالى:
{الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَال لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ}
(آل عمران: 172 ـ 174).
لقد صرفَ الله أعداءهم فلم تقع المعركة، ولكنهم كانوا قد استعدوا للقتال تماما، استعدوا له بأرواحهم، ومشاعرهم، فجمعوا عزائمهم رغم تخويف الناس لهم وعزموا على لقاء العدو متكلين على الله، وهذا هو التوكل الحق الذي يطلبه الله من المسلمين.
إن القعود عن تغيير الأمر الواقع بحجة أنه واقع بقدر من الله جهالة عظيمة لا تنبغي للمسلم، نعم إن ما وقع بالفعل قد وقع بقدر من الله -وإن كان لا ينفي مسئولية الإنسان- ولكن من يعلم ما يكون عليه قدر الله غداً، بل في اللحظة القادمة، هل علم ذلك القاعد المتواكل أن قدر الله القادم لن يكون مغايراً لقدر الله الواقع؟ أليس في الاحتمال أن الله قد قدر للحظة القادمة قدراً غير القدر الذي كان في اللحظة الماضية؟ فكيف يقعد عن العمل بزعم أنه متوكل على الله مستسلم لقدره؟
إن الفهم الصحيح للإيمان بالقدر، لا ينفي مسئولية الإنسان عن عمله، ولا يدعو إلى القعود عن تغيير الواقع، يدعوا إلى التواكل وعدم الأخذ بالأسباب انتظاراً لقدر الله وذلك هو الفهم الذي ينبغي أن يعود المسلمون إليه، ليزول عنهم ما أصابهم من فقر وجهل ومرض وتواكل وعجز، وما ترتب على ذلك كله من غلبة عدوهم عليهم، وهوائهم على أنفسهم وعلى الناس.