أسامة الهتيمي يكتب: لماذا تتهرب «شلة» تكوين من المواجهة؟!
الأهم في ردود الفعل الشعبية حول إطلاق مؤسسة «تكوين» هو حالة الرفض العامة لوجود هذه المؤسسة فلم تنخدع الجماهير الشعبية العريضة بما أعلنه المؤسسون حول أهدافها فكانت أعينهم ومنذ اللحظة الأولى على المؤسسين لا على الأهداف البراقة مدركين أنه ليس أسهل من إطلاق الشعارات والجمل الرنانة التي لا تعبر عن حقيقة مكنون أصحابها وأن وراء هذه العبارات التي صيغت بمكر ودقة ما وراءها من شر مستطير يجب أن يواجه.
ربما وكما أشرنا في مقالنا السابق حول «تكوين» أن الضجة التي أثيرت حولها كانت مستهدفة لذاتها لبعض الوقت للفت الانتباه للمؤسسة وإشغال الرأي العام بعيدا عن القضايا ذات الأولوية لكن ثمة جانب إيجابي يتعلق بهذه الضجة يجب أن لا نغفله حيث انسحبت من «حدوتة» طه حسين كما أراد لها بعض المثقفين المنتقدين للمؤسسة إلى رفض أهداف المؤسسة جملة وتفصيلا وهو ما يعني أن الشارع «وهو عندي أصدق أنباء من النخب» واعي بدرجة كبيرة لطبيعة وحقيقة الأهداف انطلاقا من قراءته الجيدة للمؤسسين وما سبق أن قدموه طيلة حياتهم البحثية والثقافية والذي لا يعدو عن كونه غثاء لا قيمة له من الناحية البحثية والفكرية بحثا عن التنجيم والثراء وانعكاسا لاستغلال ظرف سياسي خاص ومن ثم إرهاب فكري ورهان على أن البعض من ضعاف النفوس أو المستنزفين في البحث عن لقمة العيش لا يقرأون بشكل جيد فيسهل استقطابهم ومخاطبة لفضول البعض ممن تستهويهم الغرائب والخزعبلات واللعب على مشاعر من جُبل على التمرد والعصيان لإثبات الذات.
ما سبق يدعوني لإرسال رسالة تطمين لصديقي الباحث والداعية الأردني الذي وفي تعقيبه على مقالي السابق أبدى تخوفه حيث مؤسسة «تكوين» هي تجديد للوجه الإعلامي وتنشيط للعمل من جديد فضلا عن الدعم المادي الذي سيوصل هذه المقاطع إلى عدد كبير مما سيقربها إلى عامة الناس بأسلوب أكثر جاذبية حيث الرسومات والتوضيحات ما انعكس على عدد المشاهدات.. وهنا أؤكد لصديقي أن كل ذلك لا يعد معايير معتبرة في تقييم مدى نجاح هذه التجربة فيما يجب أن نعترف بأنه هناك قطاع جماهيري مستغفل تستهويه مثل هذه القضايا بهذه الأساليب وهو قطاع يمارس الحشد والتعبئة باستمرار على مواقع التواصل الاجتماعي فيبدو وكأنه صاحب الصوت العالي رغم أنه لا يعبر عن الأغلبية الواعية.
كذلك فلعل كل منا وبلا قصد يساهم بشكل أو بآخر في إحداث الزخم لهؤلاء فرغم رفضنا المطلق لمثل هذه الترهات إلا أن رغبتنا في التسلية وفضولنا يدفعنا كثيرا لمطالعة ما نسخر منه أو نراه مخالفا وتجاوزا وهو ما يوهم أصحاب هذه الترهات بأن ثمة إقبال على بضاعتهم الرائجة ومن ثم فلست قلقا على الإطلاق من مثل هذا الإقبال المتوهم بدافع التسلية والفضول فقد سبق وأن ازدهرت في مصر لسنوات ما اطلق عليه “الصحافة الصفراء” بما تضمنته من إسفاف أخلاقي أو حتى فكري إلى حد أن توزيع بعضها تجاوز توزيع صحف ذات ثقل سياسي وفكري لكنها الآن وبما اشتملت عليه أضحت نسيا منسيا.
وأضيف أنه ليس مستبعدا أيضا وانطلاقا من مبدأ التدليس الذي يتبعه هؤلاء أن تكون هناك حيل تقنية بشأن عدد المشاهدات والمتابعات أو ثمة خلايا إلكترونية تقوم بهذا الدور وهو ما لاحظته بشكل شخصي عند القيام بدراسة حول أحد المراكز البحثية المثيرة للجدل والتي دشنت لها صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي تشير إلى أن لها متابعون بعشرات الآلاف فيما أن عدد التعليقات لا يتجاوز أصابع اليد.
إنه وعملا بالقاعدة القائلة بأن «الحكم على الشئ فرع عن تصوره» فقد بادرت إلى مطالعة صفحة المؤسسة على موقع «الفيس بوك» وقد استمعت إلى عدد من مقاطع الفيديو التي هي عبارة عن اسكريبتات مكتوبة مسبقا فيما يقوم أحد الباحثين أو الإعلاميين بقراءته بطريقة توحي بأنه حديث تلقائي مما يساعد على جذب المشاهد.
وكان من بين ما شاهدته مقطعا عنوانه «هل حدد الإسلام فعلا حدا للخمر؟ وما هي عقوبة شارب الخمر؟».. وبعيدا عما أثاره المقطع من قضايا ربما أشبعت بحثا وتم النقاش حولها كثيرا فإن ما استلفت نظري أن الباحث تحدث عن أنه ليس هناك حد لشارب الخمر وخلص إلى أن عقوبته تعزيزية يقدرها الإمام أو الحاكم وتتغير حسب المصلحة وحسب المكان والظروف مشيرا في الوقت ذاته إلى أنه ورد في القرآن حدود أربعة على جرائم محددة هي السرقة والزنا والحرابة والقذف بالإضافة إلى حد القتل وهو القصاص.
ودعنا نتفق جدلا مع صحة ما ذهب إليه قارئ الإسكريبت الدكتور سامح إسماعيل لكن يبقى سؤال مهم نحتاج إلى إجابة له مفاده.. هل يرى الدكتور ومن ورائه مؤسسة «تكوين» وأعضائها أنه لا غضاضة بشأن بقية الحدود الذي ورد ذكرها في القرآن الكريم وأنه يمكن العمل بها أم ثمة رأي آخر يكون حوله النقاش عند ذكرها؟ أعتقد أن للمؤسسة رأي آخر.
وقبل أن أنتقل للنقطة الأخيرة فقد أردت الإشارة إلى أمر استفزني أيما استفزاز إذ يحاول أحد أمناء المؤسسة وهو الروائي يوسف زيدان وغيره أن يرسخوا لبدعة جديدة ما قال بها أحد في العالمين من أهل الفكر والتأمل وهي أن المؤسسة وأمنائها لا يعتزمون بل ويرفضون المشاركة في أية مناظرات حول ما يطرحونه من أفكار بدعوى أن كل طرف من أطراف المناظرة يرغب في تدمير الطرف الآخر والدلالتين الأخطر في هذه البدعة أن أصحابها يريدون حالة من الفوضى الفكرية “ما بعد الحداثة” فلكل من هب ودب أن يعرض بضاعته مهما كانت فيما أنهم يريدون القول بلا تعقيب فما على الناس إلا أن يسمعوا ويطيعوا وفقط.
وبالطبع يعكس ذلك واقع هؤلاء المرير فما شارك واحد منهم في مناظرة مع متخصص حتى تعرى تماما وبدا أمام الجماهير إما جاهل أو كاذب مدلس وما منح غثاءه من قيمة إلا الظهور الإعلامي فالمنصات وبكل أسف تمنح أصحابها قيمة حتى لو كانوا لا يستحقونها.
ثمة نقطة أخيرة تتعلق بـ«تكوين» وبغيرها سواء من الشخصيات أو المؤسسات التي تدعي أنها تحمل على كاهلها عبء التنوير المزعوم إذ يسعى كل طرف منهم إلى اتخاذ شخصية مصرية سياسية أو فكرية باعتبارها رائدة للدور الذي تقوم به هذه الشخصية أو تلك المؤسسة فنجد بعضهم يتخذ من محمد عبده أو عبد الله النديم أو أحمد لطفي السيد أو طه حسين أو زكي نجيب محمود أو حتى عبد الرحمن بدوي وغيرهم عنوانا للرسالة التي يريدون إيصالها مع ممارسة الاجتزاء والقص واللزق مع أفكار أمثال هؤلاء فيأخذون ما يريدون من أفكارهم لتبدو منسجمة مع دعاواهم.
وبما أننا نتحدث عن مؤسسة تكوين التي حرصت على أن تعلن إطلاقها عبر احتفالية بمرور خمسين عاما على وفاة طه حسين فإننا مدفوعين لتسليط الضوء على بعض ما انتهى إليه طه حسين فكريا فيما أن أهل «تكوين» وغيرهم يصرون على أن يركزوا على أفكار حسين التي تجاوزها هو نفسه فبقوا في مرحلة «في الشعر الجاهلي – ومستقبل الثقافة في مصر» لا يبرحوها وتناسوا أن طه حسين هو أيضا صاحب «على هامش السيرة ومرآة الإسلام والشيخان» وغيرها من الأعمال التي عبرت عن مسار فكري مختلف عن البدايات.
وهنا يجدر أن نشير إلى بعض ما رصده أستاذنا الدكتور محمد عمارة -رحمه الله- في كتابه «طه حسين من الانبهار بالغرب إلى الانتصار للإسلام» والذي يعبر عن هذا المسار الجديد ولا يراه أصحابنا العميان:
يقول الدكتور عمارة: وكما مثلت الرحلة الحجازية الإياب الروحي لطه حسين كان كتابه مرآة الإسلام ميدانا للإياب العقلي والفكري راجع فيه الكثير من آراء طه حسين القديم ففي سنة 1959 أي بعد نحو خمس سنوات من عودة الغريب إلى وطنه الذي صاغ قلبه وعقله وذوقه وعواطفه جميعا نشر طه حسين كتابه الجامع مرآة الإسلام وفي هذا الكتاب يكشف طه حسين عن ألوان من إعجاز النظم القرآني لعله لم يسبق إليها وفيه رفض قاطع للغرور العقلاني الذي طغى على فكره في مرحلة الانبهار بالغرب ومناهج الشك الغربية وفيه رفض للتأويل الباطني وتأويلات التصوف الإشراقي لآيات القرآن الكريم فلقد رفض في هذا الكتاب تأويل الآيات المتشابهات حتى من قبل الراسخين في العلم إذ لا يعلم تأويله إلا الله وهو أيضا ناقد للفلسفة والفلاسفة ولإقحام الفلسفة في الدين هذا الإقحام الذي قاد المعتزلة إلى مذهبهم في نفي الصفات وظنهم أن العقل يستطيع معرفة كل شيء وحتى معرفة الذات والصفات وهو في الكتاب يكثر من الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم قرابة الثمانين مرة… وغير ذلك من الشواهد التي تؤكد العلاقة الحميمية بين طه حسين والإسلام والمؤسسة على العقل والنقل والوجدان.