12 يونيو 626م (10 محرّم 5هـ): غزوة “ذات الرقاع”
– يرى بعض العلماء أنّ سبب تسمية غزوة (ذات الرقاع) بهذا الاسم، أنّ الصحابة (رضي الله عنهم)، في أثناء مسيرهم لتلك الغزوة جُرِحَت أقدامهم من المسير، والحجارة، والأشواك التي قابلتهم في رحلتهم، فرقّعوها بالخِرَق، ويرى فريق آخر من العلماء أنّ سبب تسمية غزوة ذات الرقاع يعود إلى المنطقة التي جرت فيها الغزوة، حيث جرت الغزوة في منطقة تُسمّى ذات الرقاع؛ نسبةً إلى ما فيها من الجبال المختلطة ألوانها بين السواد والحُمرة والبياض، وتلك الألوان تنتشر في جبال تلك المنطقة على شكل بُقع، لذلك أخذت الغزوة اسم المنطقة لهذا السبب.
– اختلف المفسرون في تاريخ تلك الغزوة، وهل كانت في السنة الخامسة أم السابعة، ولا يعنينا التاريخ هنا، لكن الغزوة وأحداثها والدرس المستفاد منها
– الإمام البخاري يؤكد أنها كانت في السنة السابعة، وكانت موجَّهة إلى قبائل غطفان، التي حاصرت المدينة المنورة في غزوة الأحزاب، وأرادوا أن يساعدوا اليهود في خيبر، وكانوا يُعِدُّون العُدَّة لغزو المدينة المنورة، ولكن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أرسل إليهم سَريّة وهو يفتح خيبر، فأرادوا إعادة غزو المدينة المنورة من جديد؛ ولذلك كان على الرسول (صلى الله عليه وسلم) أن يقف وقفة جادة ومُخوّفة، ويخرج إليهم بنفسه.
– خرج الرسول (صلى الله عليه وسلم) في جيشٍ صغيرٍ نسبيًّا، وهذا الجيش تقريبًا كان 400 من الصحابة (رضوان الله عليهم) ولم يكن معهم من البعير إلا القليل، لدرجة أن ستة من الصحابة كانوا يتناوبون ركوب البعير الواحد، وسار الرسول (صلى الله عليه وسلم) مسافة كبيرة بجيشه في عُمق الصحراء، وتوغّلَ حتى بلغ ديار غطفان، وهي إلى الشمال الشرقي من المدينة المنورة، على مسافة عدة ليالٍ من المدينة المنورة، وهذه المسافة كبيرة جدًّا، والصحابة يسيرون على أقدامهم، وقد أثّرَ ذلك فيهم، والإمام البخاري (رحمه الله) يروي عَنْ أَبِي مُوسَى الأشعري قَالَ: “خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةٍ، وَنَحْنُ سِتَّةُ نَفَرٍ، بَيْنَنَا بَعِيرٌ نَعْتَقِبُهُ، فَنَقِبَتْ أَقْدَامُنَا وَنَقِبَتْ قَدَمَايَ وَسَقَطَتْ أَظْفَارِي، وَكُنَّا نَلُفُّ عَلَى أَرْجُلِنَا الْخِرَقَ؛ فَسُمِّيَتْ غَزْوَةَ ذَاتِ الرِّقَاعِ لِمَا كُنَّا نَعْصِبُ مِنَ الْخِرَقِ عَلَى أَرْجُلِنَا”
– قال ابن حجر العسقلاني في “فتح الباري”: “نعتقبه أيْ نركبه عُقْبةً عُقْبة، وهو أن يركب هذا قليلاً، ثم ينزل فيركب الآخر، بالتناوب حتى يأتي على سائرهم”
– مما زاد الأمر سوءًا وعُوُرة الأرض وكثرة أحجارها الحادّة، التي أثّرت على أقدام الصحابة، حتى تمزّقت خفافهم، وسقطت أظفارهم، فقاموا بلفّ الخِـرَق والجلود على الأرجل؛ ومن هنا جاءت تسمية هذه الغزوة بهذا الاسم، ففي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: “وكنا نلفّ على أرجلنا الخِرَق، فسُمِّيت غزوة ذات الرقاع”.
– استمرّ جيش المسلمين في المسير حتى بلغ موضعًا لبني غطفان يُقال له: “نخل”، فلما سمع بهم الأعراب، وعرفوا أن النبي (صلى الله عليه وسلم) يقود الجيش بنفسه، تملّكهم الخوف، وأدركوا جدّية الأمر، فهربوا إلى رؤوس الجبال، تاركين وراءهم النساء والذرّية.
.. وهكذا انتهت أحداث هذه الغزوة، وقذف اللهُ الرُعب في قلوب أولئك الأعراب، فلم تجرؤ القبائل من غطفان ولا غيرها أن ترفع رأسها بعد ذلك، حتى شاء الله لها أن تُسلم لاحقًا لتشارك في فتح مكة وغزوة حنين.
الدروس المستفادة:
– قبل أن يصل الرسول (صلى الله عليه وسلم) إلى أرض المعركة، يقذفُ اللهُ الرعبَ في قلوب أعدائه، وقد رآه المسلمون في بدر، وفي الأحزاب، وفي غزوات اليهود المختلفة، فقد رأوه مع بني قَيْنُقَاع وانتهاءً بخيبر، بل شاهدوه في النصف الأول من غزوة أُحد عندما كان المسلمون مرتبطين برسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال تعالى تعليقًا على النصف الأول من غزوة أُحد: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 151].
أي أنه إذا ارتبط المسلمون بالله عز وجل، ألقى اللهُ تعالى الرعب في قلوب الفريق الآخر، وهذا أمرٌ معروف عند المسلمين في حروبهم، ولكن الجديد في غزوة “ذات الرِّقَاع” أن هذا الشعور قد دخل أيضًا عند أهل غطفان، ووجدوا أنفسهم ينسحبون أمام الجيش الإسلامي بشكل غير مبرّر، ووجدوا أنفسهم للمرة الأولى في حياتهم في فزعٍ ورعبٍ شديد من غيرهم، فهم يعيشون على السلب والنهب وقطع الطريق، ومع ذلك وجدوا أنفسهم يخافون من الجيش الإسلامي الذي لا يتجاوز 400 من الصحابة (رضوان الله عليهم أجمعين).
—————-
يسري الخطيب