فاتن فاروق عبد المنعم تكتب: القدس.. ملتقى الأنبياء (12)
المعمار سلاح أيديولوجي:
مازلنا مع الفارس الذي فعل مثلما فعل عمر بن الخطاب عندما تسلم مفاتيح القدس، قام صلاح الدين الأيوبي بغسل المسجد الأقصى مع رفاقه بماء الورد، وقد عكف طيلة اليوم على إعادة وجه المسجد الأقصى إلى ما ينبغي أن يكون عليه من إزالة المراحيض وأثاث «فرسان الداوية» وبناء المنبر ووجهة قبلة الصلاة تجاه الكعبة كما عني بإنشاء المبان الإسلامية حول المسجد وأزال الصور والتماثيل المسيحية وقام بمصادرة قصر البطريرك الواقع جانب القبر المقدس (قبر المسيح حسب العقيدة المسيحية من الصلب والدفن والقيام)
الفارس يحمي عقيدة أهل السنة والجماعة من أباطيل الشرك وخرافات المتصوفة:
بأموال الدولة اشترى صلاح الدين دير وكنيسة القديسة آنا بجانب المسجد الأقصى لتحويلها إلى مسجد استمرارا لإعادة طوبوغرافيا القدس (خريطة المدينة) إلى العمارة الإسلامية، وليس ذلك فحسب وإنما قام مع نور الدين في إطار حملتهما ضد الشيعة بفتح المدارس والخنقات الصوفية ولكنه منع أن يدرس فيها أي من السابقين خشية أن يتسلل الشيعة من خلالهم فاستدعى مدرسين ثقات للعلوم الشرعية من خارج القدس، أما الكنيسة التي اشتراها فقد حولها إلى مسجد والدير حوله إلى مدرسة وقصر البطريرك إلى خنقة أو كما نقول بمصر مكان للمجاورين من المقبلين على الدراسة بالمدرسة، وحملت هذه الأماكن اسم صلاح الدين.
ثبت صلاح الدين كتيبة عسكرية بالقدس لحمايتها وتوجه إلى دمشق لمواجهة الصليبيين، وتوافد المسلمون من كل مكان على المدينة المقدسة من الأفارقة الذين اجتاحوا الريف والحضر، والمغاربة الذين استقروا في الركن الجنوبي الغربي من الحرم (المسجد الأقصى) وسمح لهم بتحويل مقصف «فرسان الداوية» إلى مسجد باسمهم وأصبح حي المغاربة سمة من سمات القدس.
وعن وضع المسيحيين واليهود بالمدينة تقول كارين:
«لم يكن في نية صلاح الدين حظر سكنى اليهود والمسيحيين، فقد استمر العمل بمبدأ التعايش والاندماج القديم، وطلب من بضعة آلاف من الأرمن المسيحيين السوريين أن يعيشوا في المدينة كذميين، كما منح صلاح الدين اليونان الأرثوذكس الوصاية على كنيسة القبر المقدس، فلم يكن بالإمكان إلقاء لوم الحملة الصليبية الأوروبية على المسيحيين المحليين، وأصبحت المقبرة محاطة بمبان إسلامية جديدة، وكان صلاح الدين قد اقتطع جزءا كبيرا من البيمارستان (المستشفى) سكنا للحاكم كما وهب ابنه الفاضل مستشفى جديدا ومسجدا للأوقاف وكرس مسجدا في القلعة للنبي داوود، وانتصبت المآذن في أرجاء الحيز المسيحي المقدس، وارتفع صوت الآذان في حي البطريرك وأراد بعض الأمراء هدم كنيسة القبر المقدس، وتوافق رأي صلاح الدين مع رأي موظفيه الأكثر حكمة والذين قالوا بأن الموقع نفسه هو المقدس لدى المسيحيين وليست الكنيسة، ثم سمح للحجاج اللاتينيين بالوفود إلى القدس بعد الحملة التالية»
بزوغ فكرة الصهيونية:
كما أن جيش المسلمين بقيادة صلاح الدين لم يتعرض بسوء للمسيحيين وكنائسهم فإنه دعا اليهود للعودة للقدس التي كانت قد حرمت عليهم من قبل الصليبيين بشكل شبه كلي، فتعالت الأصوات المرحبة به في الأوساط اليهودية على أنه قورش الجديد في أنحاء العالم اليهودي (قورش هو ملك الفرس الذي أحسن لليهود وأعطاهم شبه حكم ذاتي في عهده)
وعلى حد تعبير كارين فإن الحروب الصليبية كانت السبب الرئيس في التحام يهود أوروبا مع يهود الإمبراطورية الإسلامية فظهرت أولى بوادر الصهيونية عند الطبيب اليهودي يهوذا حلفي الذي كان يعيش في الأندلس متنقلا بين المناطق الإسلامية والمناطق المسيحية أثناء الحروب المسيحية لاستعادة أسبانيا المسلمة فنشأت لديه نزعة وجوب عودة اليهود إلى أرض آبائهم بفلسطين والتي هي حق يهودي خالص دون المسيحيين أو المسلمين والذين كانوا يتحاربون من أجلها في ذلك الحين، فقط ذلك هو الخلاص الوحيد لليهود حيث يعود الرب لمقره في أورشاليم!!
فابتدأ بنفسه بالإبحار عازما النية على بلوغ فلسطين ولكن يقال إنه توفي في مصر.
مربك ومدهش لليهود في آن:
وهو فتح صلاح الدين للمدينة المقدسة، حيث دعاهم للتوافد والإقامة في القدس من أماكن شتى حتى بلغ عددهم ثلاثمائة عائلة يهودية وسمح لهم ببناء معبد فكانت هذه العودة قد جددت لهم الأمل في إقامة مملكة داوود وهالهم رؤيتهم للمباني الإسلامية بالمدينة مما دعا الشاعر اليهودي الأسباني لأن يقول:
«يا له من عذاب أن يرى المرء الساحات المقدسة وقد تحولت إلى معبد غريب! لذا حاولنا أن ندير وجوهنا لنتحاشى النظر إلى تلك الكنيسة المهيبة وقد ارتفعت في موقع خيمة الاجتماع القديمة الذي اتخذه الله سكنا يوما ما»
وهنا تزايد اعتقاد اليهود أن الأرض تنتظر أن يعود إليها سكانها الحقيقين، فالمسلمين والمسيحيين لن يستفيدوا من قدسيتها حيث أن قداسة المدينة جزء من اهتمام الرب بشعبه (اليهود)
توفي صلاح الدين بالتيفود عام 1194م واقتسمت الأسرة الأيوبية حكم المدينة كل أمير له جيشه وله رؤيته وإدارته الخاصة ولكن لم يفقد المسلمون حماسهم للقدس ولا الحفاظ على هويتها الإسلامية من المعمار إلى إنشاء المدارس وحلقات العلم وتوافد العلماء عليها لتدريس العلوم الشرعية.
ولنا هنا وقفة:
مرة أخرى القيادة الإسلامية فقط هي التي احترمت وجود المخالف، فاستدعاء صلاح الدين لليهود والمسيحيين (رغم يقينه بما تموج به رؤوسهم من خطط لا تبغي بالإسلام والمسلمين الخير) للعودة للقدس هو سلوك يصدر من شخص سوي قوي واثق مما لديه وأولى به تلك المفردات الجديدة التي ابتدعوها في زماننا مثل احترام الآخر وقبول الآخر…..إلخ وهو المنتصر الذي بإمكانه أن يفرض شروطه وإملاءته على المهزوم ولا يوجد من يلزمه بما لا يريد ما لم تكن تلك القرارات من قناعاته الشخصية فحسب، فهل نعمت المدينة بالهدوء والسلام إلا في ظل القيادة الإسلامية؟
ورد على لسان الكاتبة أن صلاح الدين وهب الفاضل «ابنه» مستشفى ومسجد، بينما الفاضل لم يكن ابنه وإنما مستشاره الخاص وكان قاضيا أديبا أريبا ناقدا أدبيا، والمستشار في ذلك الزمان لم يكن يجلس بعيدا عن الأنواء وإنما كان حاضرا في ساحات الوغى في قلب المعارك يشير ويراقب كل المستجدات، وبلغ به الأمر أن منع صلاح الدين من الحج عندما شرع فيه فقال له لن تذهب إلى الحج والصليبيون يحيطون بالقدس من كل جانب وقد يغيروا عليها ويأخذوها مرة أخرى، وبالفعل لم يحج صلاح الدين.
قد يهل علينا «مثقف مخنث الفكر وما أكثرهم في زماننا» تكويني الأصل أو الهوى فلا فرق بينهما، ينتفض وتنتفخ أوداجه لأي أمر صغير أو كبير يخص «الآخر» أي آخر في هذا الوجود وهذا دأبه وينتقد شراء صلاح الدين لكنيسة ودير القديسة آنا وتحويلهما إلى مسجد ومدرسة، هذا المثقف الرعديد الذي لا ينتصر للإسلام ولا المسلمين في أي موضع ولا ينتقد في الوجود سواهما ولا يرى أي سوءة أو نقيصة إلا وينسبها لهما بينما يكيل عظيم المدح والثناء لمن سواهما، فهو يحترم أي دين دون الإسلام، ويتبنى قضية أي فئة من البشر دون المسلمين.
هذا الفسل الأصم أعور العين لا يمكنه البتة أن يكون شاهدا عدلا وإنما يراود الآخر عن نفسه بالمبالغة في التودد إليه لعلمه من أين تؤكل الكتف طمعا في حنطة وعسل الآخر رغم علمه بالحقيقة الماثلة، ولهذا المثقف الذي هو كالحمار يحمل أسفارا نقول، في الوقت الذي كان يحسن فيه صلاح الدين لليهود والمسيحيين كانوا هم يضمرون السوء للمسلمين، فهل قام المسلمون بذبخ وتعذيب ثلاثة ملايين مسيحي أو يهودي كما فعلت الكنيسة بالمسلمين في الأندلس؟ هل تعامل صلاح الدين مع اليهود والمسيحيين كما تعاملوا هم مع المسلمين؟ والله كلا وألف كلا ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون.
وللحديث بقية إن شاء الله