محمد نعمان الدين الندوي يكتب: العلامة أنور شاه الكشميري (2)
ذاكرته: أما ذاكرته.. فحدث عن البحر ولا حرج! فيكاد ينعدم نظيره في قوة الحفظ وحدة الذهن، فقد كان آية من آيات الله في جودة الحفظ وقوة الذاكرة، فذكاؤه النادر وذاكرته الفذة ونبوغه مما لا يختلف فيه اثنان، وأروع مظاهر النبوغ في تنوعه العلمي إحاطته بالحديث الشريف وعلومه إحاطة المستوعب.
مما يدل على ذاكرة العلامة الكشميري النادرة وحافظته اللاقطة أنه كان قرأ: (نور الإيضاح) في الفقه الحنفي، لدى زيارته لمصر في إحدى مكتباتها، ثم طُبِع الكتاب في الهند على أساس قراءة الكشميري له. (١)
فكان الشيخ إذا قرأ شيئاً خزن ذلك في حافظة واعية، ليؤديه متى شاء، لا يند منه حرف ولا صرف.
يقول الشيخ محمد إدريس الكاندهلوي: (كان الشيخ الكشميري إذا تكلم في المسائل المختلف فيها، ذكر أقوال ابن همام كثيرًا وأبدى رأيه فيها مؤيدًا أو معارضًا، موافقًا أو مخالفًا، فقال ذات مرة -تحديثًا بالنعمة-: «لقد قرأت فتح القدير بكامله -الذي يحتوي على ثماني مجلدات- في ٢٦ يوماً فقط، والآن قد مر على ذلك ٢٦ سنة، ولا أشعر بحاجة إلى مراجعته، فإن قارنتَ ذلك بالأصل لم تجد إلا فرقًا يسيرًا إن شاء الله). (٢)
ويقول الشيخ حسين أحمد المدني: كان الشيخ الكشميري يقول: «حينما أقرأ الكتاب قراءة عابرة، ولا أريد مباحثه ومحتوياته.. فإنه يبقى محفوظًا عندي خمس عشرة سنة. (٣)
الحق أن قوة ذاكرة الشيخ كانت ردًا على منكري الحديث الذين يقيسون ذاكرة المحدثين على ذاكرتهم، فلا يثقون بذاكرة المحدثين، فيؤدي ذلك إلى نظرة شك في التراث الحديثي الضخم.
علم ابن حجر: يقول الشيخ سراج أحمد الرشيدي:
«كان العلامة الكشميري يقول: دعا رجل -متعلقاً بأستار الكعبة- الله سبحانه وتعالى قائلاً: يا رب أعطني علمًا كعلم ابن حجر، فاستجاب الله له دعاءه، يقول الرشيدي: كنت أظن أن الشيخ يقص حكاية رجل آخر، ولم يخطر ببالي أن الحكاية حكايته، وانتبهت بعد برهة أن القصة قصة الشيخ نفسه.. أي الشيخ كان يحكي عن نفسه». (٤)
تمكنه من الفقه: لقد عُرف الشيخ الكشميري بمكانته الجليلة في الحديث الشريف وعلومه، إلا أنه كان متمكنًا من الفقه وغيره أيضاً، يقول الشيخ نفسه: «كنت قادرًا على الإفتاء وعمري ١٢ سنة، وكنت أستطيع حل بعض مسائل الفقه والنحو -بدون الاستعانة بالأستاذ- بدراسة المطولات، وعمري تسع سنوات فقط». (٥)
فلم يكن الشيخ الكشميري حافظًا للحديث فقط، بل إنه كان حافظًا للفقه والخلاف أيضًا، فكان حافظًا للمذاهب، ولم يكن بارعًا في الأصول والكليات فقط، بل كان متمكنًا من الجزئيات أيضًا، وعالمًا بمذهب كل إمام في المسائل المختلف فيها، ومطلعًا على أقوال الأئمة في كل مسألة، وذا إلمام بأسباب اختلافهم في المسائل، يدل على ذلك قول الكشميري الآتي:
«ليس عندي فن أصعب من الفقه، حتى أنني في الفنون كلها ذو رأي وتجربة، أحكم بما أريد، وأنتخب من أقوالهم ما أريد، وأفترع (الفرع) الآراء من عندي، لا أحتاج إلى تقليد أحد، ولكني في الفقه مقلد بحت، ليس لي رأي سوى الرواية، ولذا قد يصعب علي الإفتاء، فإن الناس لا يكون عندهم إلا قول واحد، ويكون عندي فيه أقوال عن الإمام أو عن المشايخ، والتصحيح قد يختلف، ولست من أصحاب الترجيح، وحينئذ أفتي بما يقرب من مذاهب الأئمة وآثار السلف والسنة».(٦)
ويتحدث العلامة عن أهمية الفقه وعظمته فيقول: «إن الفقه لب الدين وخلاصته، فقد انتقل إليه -الفقه- العطر المصفى من الكتاب والسنة وآثار الصحابة والتابعين، وهذا هو الترتيب المنطقي الصحيح أن يُرجع إلى الفقه بعد الكتاب والسنة، فالذين يقررون مسألة في الذهن، ثم يحاولون إثباتها بالكتاب والسنة مخطؤون، لأنهم يريدون السير (المعكوس) من الفقه إلى الكتاب والسنة».(٧)
الكشميري والفقه الحنفي: كان الكشميري حنفياً.. لا على وجه التقليد المحض، أو كالاتباع العامّي السائد، ولكن على وجه البصيرة والنظر والتحقيق والاقتناع التام، يدل على ذلك قوله: «من حسن حظي أن كل اجتهاد من اجتهاداتي يطابق اجتهاد أبي حنيفة كليًا».. يعلق تلميذه النابغة الشيخ محمد طيب القاسمي على قول أستاذه قائلاً:
«كان الشيخ الكشميري -كمزاج أكابر ديوبند ومذاقهم العلمي- مقلدًا، ولكن كان محققًا في هذا التقليد، كان ملتزمًا بالفقه الحنفي يتمذهب به، ولكن تمذهبه به كان على أساس التحقيق والقناعة والتأكد، كمذهب أهل السنة في القدر أن العبد مختار.. ولكنه مجبور في الاختيار، كذلك الشيخ الكشميري مقلد أصلًا، إلا أنه محقق في التقليد، وكذلك حينما يقلد في جميع المسائل الاجتهادية، يكون محققًا فيها على الأسس القرآنية والحديثية، ويضع ذلك دائمًا نصب عينيه، وقد بين مؤلف أمريكي في كتابه المعروف: (MODEREN INDIA) (الهند الحديثة) منهج ديوبند هذا (الجامع للأضداد) تحت عنوان: (إسلام الديوبنديين): «من العجب العجاب أن هؤلاء ( أهل ديوبند) يسمون أنفسهم مقلدين، ولكن -مع ذلك- يحققون في كل مسألة، ويحللون المسائل، ويقومون بتحقيق يبرزون فيه مجتهدين أصلاء مع زعمهم للتقليد».(٨)
كما أسلفنا أن الكشميري كان حنفيًا على وجه البصيرة والنظر والتحقيق، وكان يراه أقرب إلى الحديث، فكان يقول: «بعد أربعين سنة من دراسة الحديث الشريف والتعمق فيه، أرى أن الفقه الحنفي هو الأوفق للحديث وأكثر مطابقة له، إلا أن هناك مسائل عديدة أجد فيها بعض الضعف».(٩)
الكشميري وصحيح البخاري:
كان يتناول الشيخ الكشميري شرحَ الحديث بمختلف نواحيه وجوانبه، ويبين المذهب -من المذاهب الأربعة- الذي اختاره الإمام تحت ترجمة الباب، وكان يتجلى لمن كان يقرأ صحيح البخاري كاملاً على الكشميري أن البخاري وافق أبا حنيفة ومالكاً في الأغلب، إلا في مسائل مشهورة عديدة. (١٠)
الكشميري والأدب: كان للعلامة الكشميري ذوق رفيع عالٍ في فن الأدب والشعر، وكان له القدح المعلى فيهما، وكان يكتب قصائد رائعة بليغة بمناسبة زيارة الشخصيات البارزة، أو لدى وقوع حادث جلل، وينشدها في الحفلات، وكان أسلوب إلقائه رائعاً جذاباً مصحوباً بالترنم واللحن الذي يترك في السامعين أثراً كبيرا، وكان بلغ الذروة في البلاغة العربية والفارسية، ويقول: «أستطيع أن أرتجل كتابة أربع صفحات كالحريري في ساعة واحدة، ولكن لا أستطيع أن أكتب أربعة سطور كمتن الهداية في أربعة شهور».(۱١)
الكشميري والتأليف: لم تكن للكشميري أي رغبة أو هواية في تأليف الكتب، وذلك يرجع إلى نزعته الفطرية وعدم حبه للظهور والصيت، فقد كان من العلماء الذين يؤثرون الخمول والعمل في صمتٍ، وبعدٍ عن الضوضاء، وكان يرى التأليف من أسباب الشهرة والظهور ونباهة الذكر، أما بعض الرسائل التي قام بتأليفها، فما ألفها إلا لحاجة ملحة، أو سبب قاسر دفعته إلى كتابتها ضرورة دينية قصوى، مثل الرسائل التي كتبها للرد على القاديانية وإثبات ختم النبوة المحمدية على صاحبها الصلاة والسلام.
فمن أجل عدم ميل الكشميري إلى التأليف وعدم رغبته فيه، خسرت الأمة خسارة عظيمة، حيث حرمت الاستفادة من علومه وأفكاره كانت تستطيعها لو كان الكشميري ترك تراثه العلمي الهائل في صورة الكتب والمؤلفات.. كما هو العهد بالكثير من أجلة علماء الأمة الذين اعتنوا بالتأليف، فتركوا للأجيال القادمة هذه الثروة العظيمة من العلوم والمعارف المحفوظة في الكتب والمؤلفات القيمة النادرة التي تعتز بها المكتبة الإسلامية العالمية، وهكذا خلدوا علومهم إلى يوم القيامة.
يقال إن تلامذة الكشميري لم يوفقوا في نقل تراثه العلمي الضخم إلى الآخرين في أمانة ودقة، ويصدق عليه ـ الكشميري – ما قاله الشافعي عن الإمام الليث بن سعد (المتوفى ١٧٥هـ): «الليث أفقه من مالك إلا أن أصحابه ضيعوه»، وقد شرحه ابن حجر قائلاً: «يعني لم يدونوا فقهه كما دونوا فقه مالك وغيره، وإن كان بعضهم قد جمع منه شيئاً». (١٢)
(للحديث بقية)
الهوامش:
(١) الأنور: ٢٠٨
(٢) أيضًا ٥١٤
(٣) أيضًا ٥١٥
(٤) أيضًا: ٢١٥، ونفحة العمر: ١٨٠
(٥) الأنور: ٦٧
(٦) فيض الباري ٤ / ١٩٧ نقلًا من الأنور: ٣٧٧
(٧) الأنور: ٣٦٧
(٨) أيضًا: ٢٥٨
(٩) أيضًا: ٣٦٦
(١٠) أيضًا: ٤٥٠
(١١) أيضًا: ٢٧٨- ٢٨٩
(١٢) الرحمة الغيثية بالترجمة الليثية في مناقب سيدنا الإمام الليث بن سعد للإمام ابن حجر العسقلاني، طبع مصر ١٣٠١ھ، ص ٩، نقلًا من: الأنور ٣٩٧.
(ليلة الجمعة: ١٩ من محرم ١٤٤٦ھ – ٢٥ من يوليو ٢٠٢٤م)