محمد نعمان الدين الندوي يكتب: العلامة أنور شاه الكشميري (3)
من أقواله في العلم: الكتب والمقالات التي تتحدث عن حياة العلامة الكشميري ومآثره العلمية، زاخرة بالكثير من آرائه وأقواله حول مختلف الموضوعات، نكتفي هنا بإيراد نبذة منها، قال -وهو يتحدث عن مقصد العلم-:
«إن المقصد من العلم أن يطهر به الإنسانُ عقلَه وقلبه من ظلمات الجهل والغواية، فيخرج هو -نفسه- من الظلمات إلى النور، كما يحاول أن يُخرج به – العلم – الآخرين من الظلمات إلى طريق الحق والهداية والنور».
وقال -أيضاً-:
«من تعلم القرآن الكريم والحديث الشريف والعلوم الدينية ليملأ بذلك بطنه فقط، مثله كمثل رجل يشتري رداء ثميناً من السوق لينظف به حذاءه».
رأيه في الاكتشافات العلمية:
زار الشيخ مدينة لاهور سنة ١٣٤٨ھ، وانتظم هناك مجلس علمي حضره الدكتور محمد إقبال وغيره من أفاضل المثقفين، وتطرق الكلام إلى الرقي والازدهار الذي يشهده العالم، فقال الشيخ:
إن ما حصل اليوم من التقدم العلمي المحير والاكتشافات التكنولوجية، توجد نظائرها في معجزات الأنبياء، وقد أظهرها الله تعالى في معجزات الأنبياء، لتكون تمهيداً لما تحرزه الأمة من التقدم والسبق والاكتشاف مستقبلاً، وأضاف قائلاً: لقد أشرت إلى ذلك في: «ضرب الخاتم».(١)
رأيه في بعض معجزات النبي صلى الله عليه وسلم:
للكشميري آراء قيمة وأقوال جليلة في المسائل المحكمة، منها ما قاله : «إن الرؤية التي جاءت في الحديث الشريف: (إنما أراكم من ظهري) كانت كمعجزة من معجزاته صلى الله عليه وسلم، كذلك قال أحمد بن حنبل، وقد أثبتت الفلسفة الجديدة أن القوة الباصرة توجد في جميع أعضاء البدن». (۲)
الكشميري والسياسة: كان موقف الكشميري من السياسة، نابعاً من نفس المنهج والموقف الذي كان يقفه الأكابر (منها) من ديوبند، فقد كان الكشميري يتفجر حماسة وحمية لحركة تحرير البلاد، وكان يبدي استعداده لتحمل مشاق السجن من أجل ذلك..، فقال ذات مرة -وهو يوجه كلمته إلى العلماء-: «اعملوا شيئا، فمثل هذا الوقت لا يتكرر، أنا أقول للعلماء: إنكم لا تُرزَقون إلا باسم الدين، فاعملوا شيئا من أجله.. لقد بلغت من الضعف ما جعلني لا أستطيع المشي ولا الحركة إلا بصعوبة بالغة.. ولكن رغم هذا الضعف والكبر استعد لدخول السجن دفاعاً عن الوطن». (٣)
الكشميري يدعو إلى ضرورة تعلم الإنجليزية:
يقول الكشميري: «لقد تحاشيت -دائماً- استخدام الأردية كتابة وقراءة، محتفظًا بذوقي العربي والفارسي، حتى كنت لا أكتب الرسائل إلا بالعربية أو الفارسية، ولكن الآن أتأسف على ذلك، فإنه قد وجب الآن تحصيل البراعة في الأردية لخدمة الدين والدفاع عنه، كما يجب على الدعاة الذين يعملون خارج الهند أن يتخذوا الإنجليزية وسيلة للدعوة والتبليغ، وأنا أوصيكم بذلك خاصة».(٤)
الكلمة واضحة وصريحة في ضرورة تعلم الإنجليزية والتمكن منهاخاصة للقيام بالدعوة ونشر الدين في البلاد الناطقة بالإنجليزية.
أهم ما كان يشغل الكشميري في آخر عهده بالدنيا:
كان العلم شعاره ودثاره، وشغله الشاغل وأعظم ما يلذه، ولكن -إلى جانب ذلك- كان أهم ما يشغل نفسه ويؤرق نومه ويقض مضجعه في آخر أيام حياته: ما يشهده العالم من انتشار الإلحاد واللادينية، وثورة العقل والفكر، وغلبتها في معظم دول العالم.
وكذلك : فتنة (القاديانية) كانت في طليعة ما يهمه ويجعله على أحر من الجمر، فرغم عدم رغبته في التأليف وزهده في التصنيف والكتابة، قام بكتابة عدة مؤلفات قيمة في إثبات النبوة والرد على القاديانية، فآخر ما ألفه : (خاتم النبيين)، فقد كتبه وهو في أيامه الأخيرة من عمره، فوافاه الأجل وهو لم يكد ينتهي من تبييضه.
كما قاوم المسيحيين والهنادك (آريه سماجيين) ورد على ترهاتهم وأثبت ضعف دلائلهم.
كانت الفتنة القاديانية أكبر تحد وأخطر مؤامرة ضد الإسلام في عصره، وأدهى ثورة مخططة مدبرة على الرسالة المحمدية على صاحبها الصلاة والسلام، فتصدى لها، وقاوم تحديها، وألف في الرد عليها كتباً تنطق بعبقريته العلمية ونبوغه المعرفي المحيط بالموضوع، هنا ينبغي أن نورد ما قاله الشيخ محمد يوسف البنوري متحدثاً عن الدور العظيم الذي قام به العلامة الكشميري في التصدي للفتنة القاديانية، يقول :
«…. ولكن هذه السعادة الأزلية كانت مقدرة مقضية للشيخ رحمه الله تعالى، فتفرس الشيخ في بدئها بنور فراسته وبصيرته أن هذه الفتنة من أدهى الملمات على الدين وأعظم المصائب، وما هي إلا فالية الأفاعي والعقارب، فلو بلغ السكين العظم وتفاقم الشر والفساد، ولم تسد أبوابها، ولم ننتهض لمقاومتها، لسلت هذه الفتنة روح الإسلام من قلوب المؤمنين، ولغادرتهم خشباً مسندة بلا إيمان، فهكذا أزعجت الشيخ وأطارت رقاده وأزالت راحته، فقام بتوفيق الله مستنفداً وسعه وجهده البالغ في قطع عروقها، فأخذ الأمر بقوابله بالاستعجال، وبعث أهل عصرنا على المقاومة، ونفخ فيهم روح المكافحة والنضال، وحذرهم عن مكائدها، ونبأهم على شبكاتها المنغرزة على وجه البسيطة، فهذا الذي ترى اليوم من مساعي أصحاب الجرائد الهندية واللجان التي أسست على الدفاع عن حوزة الملة الإسلامية، وكشف عوار هذه الفئة الضالة المضلة، وصدع مضارها الدينية والسياسية على المسلمين، كل ذلك من مآثره الجليلة، فهذه عندي مزية كبرى من سائر مزايا الشيخ رحمه الله، وتفوق سائر مآثره السامية، فلو لم يكن للشيخ حسنة غير هذه الحسنة العظيمة ومنقبة غير هذه المنقبة العالية، لكفته شرفاً وفضلاً، ولكفته شهادة على أنه كان رباني هذه الأمة».
ويستطرد البنوري قائلاً:
«بلغني عن الشيخ رحمه الله تعالى أنه كان يقول لما انتشرت هذه الفتنة العمياء، كان لا تأخذني في المضجع نومة كمداً واضطراباً من هذه الرزية الدهياء، فأقلقتني جدا مخافة أن يقع بها ثلمة في الدين يعتاص سدادها، وغلبني الأرق والسهاد حتى مضت علي ستة شهور كاملة في هذه الحالة المقلقة المذيبة، حتى ألقى الله تعالى في قلبي أن ستبيد شوكتها وتضعف صولتها، فشفى الله قلبي بعد هذه البرهة حتى اطمأنت نفسي وسكن جأشي، وأشار الشيخ إلى هذه الواقعة في بعض قصائده العربية والفارسية، ولما ألف الشيخ كتابه: (عقيدة الإسلام) في حياة عيسى عليه السلام، قال أرجو أن يشفع لي سيدنا عيسى عليه السلام بهذه الرسالة إن شاء الله تعالى» (٥).
الحقيقة أن الكشميري أول من شعر بخطورة الفتنة القاديانية وضررها العظيم على العقيدة الإسلامية والنبوة المحمدية، فتصدى لمقاومتها بكل ما أوتي من علم وحماسة وحمية، وأشعر المسلمين بآثارها الخطيرة، وبذل لمقاومتها من وقته وصحته وجهده ما وسعه، فجزاه الله عن الأمة كلها خيرما يجزي به عباده المجاهدين العاملين المدافعين عن دينه.
(للحديث بقية)
الهوامش:
(١) الأنور: ٣٣٢، ٣٣٣
(٢) الأنور: ٤٣١
(٣) أيضًا: ٤٤٣
(٤) أيضًا: ٣١٤
(٥) نفحة العنبر ١٩١- ١٩٢
(الأربعاء: ٢٤ من محرم ١٤٤٦ھ – ٣١ من يوليو ٢٠٢٤م )