د. محمد عياش الكبيسي يكتب: هل البخاري معصوم؟
يتردد هذا السؤال عادة كلما ترددت عبارة (كل ما في البخاري صحيح)، وهو سؤال قد يكون مبعثه قلّة العلم مع حسن النيّة، خاصة من شبابنا الذين ليس لهم باع في هذا العلم، وقد يكون مبعثه تعمد الطعن في البخاري وفي السنّة كلها،
وقد رأيت من بعض الإخوة الغيورين على السنّة يجيبون بأجوبة غير مقنعة بل قد تدفع حتى بأولئك الشباب البريئين إلى تبني مواقف أكثر شكا وأكثر جرأة وتطرفا.
وسأختصر هنا في نقاط محدّدة أهم ما يمكن أن يجاب به عن هذا السؤال:
1- في عقيدتنا -أهل السنة والجماعة-: أن البشر كل البشر معرّضون للخطأ، إلا الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- فيما يبلّغونه عن ربهم، فقد عصمهم الله بالوحي.
2- وعليه فالبخاري ليس معصوما، ولذلك نفرّق بين مؤلفات البخاري نفسه، فنقول في كتابه «الجامع الصحيح» ما لا نقوله في كتابه الآخر «الأدب المفرد»، فالأوّل كله صحيح نعم، أما الثاني ففيه وفيه. ولو كنا نقول بعصمة البخاري لما فرقنا بين كتابه هذا وكتابه ذاك.
3- على أي أساس ميّزنا «الجامع الصحيح»؟ ميّزناه بالمنهج الذي اختاره البخاري في تأليفه لهذا الكتاب حصرا، وهذا لا علاقة له بالعصمة، ومثل هذا في بقية العلوم مثل أن أقول لطبيب متقن: اجمع لي كل المعلومات الطبية اليقينية التي لا يختلف فيها الأطباء، فأعدّ العدّة ووضع المعايير الدقيقة، ثم نظر فيه عامة الأطباء فأقرّوه، فالطبيب هنا ليس معصوما، لكنه تمكن من جمع المعلومات الصحيحة فأفردها في كتاب وشهد له الأطباء في ذلك.
وهذا يعني أيضا أن البخاري قد لا يكون أعلم بالحديث من كل المحدثين، وإنما لكل إمام منهجه في جمع الأحاديث، فابن حنبل جمعها على شكل مسانيد لكل صحابيّ مسنده، بغض النظر عن الصحيح منها أو الضعيف، مع أن الصحيح فيها لا يقل عن عدد الصحيح في البخاري، والترمذي جمعها بحسب موضوعاتها كالبخاري، لكنه كان يبيّن حكم كل حديث في موضعه، فيقول: (هذا حديث صحيح) أو (هذا حديث غريب) وهكذا دون أن يفرد الصحيح في كتاب مستقل.
4- بقي علينا أن نعرف: هل كل كلمة أثبتها البخاري في كتاب (الجامع الصحيح) هي وحي من الله تعالى كالقرآن؟ حقيقة لا يوجد عاقل يقول بهذا؟ مع اعتقادنا الجازم أن سنّة الرسول صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه هي وحي من الله تعالى بلا شك،
وهنا نحتاج إلى تفصيل:
أ- القرآن كله كلام الله تعالى، ليس فيه حرف واحد يخرج عن هذه القاعدة، بينما صحيح البخاري ليس كذلك، فقد يروي البخاري أخبارا وآثارا وأقوالا لغير النبيّ عليه الصلاة والسلام، كما روى عن أبي سفيان قصة حواره مع هرقل، فهرقل هو الذي يسأل، وأبو سفيان يجيب، والقصة على طولها ليس فيها قول لرسول الله عليه الصلاة والسلام، فكيف تكون هذه القصة وحيا؟
ومثل ذلك ما ذكرناه سابقا في إخبار السيدة عائشة عن نفسها أن النبيّ صلى الله عليه وسلم تزوجها وهي بنت ست سنين وبنى بها وهي بنت تسع، ومثل ذلك ما رواه البخاري عن أبي هريرة قال: (حفظت عن النبي صلى الله عليه وسلم وعائين، أما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم) فأبو هريرة يخبر عن نفسه، ويقدّر الأمر بنفسه، فلا هو نسبه إلى رسول الله، ولا البخاري نسبه.
وعليه فإننا حينما نقول عن هذه الأخبار (صحيحة) لا نقصد أنها صحيحة عن رسول الله ويجب العمل بها، بل نقصد أنها صحيحة الورود إلى من نسبت إليه، لأن البخاري ضبط هذا السند من أوّله إلى منتهاه، فلا يصح أن نضيف نحن ما لم يذكره البخاري نفسه، إلا ما ترجّح بدليل آخر أن الصحابي قد سمع هذا من رسول الله، وهو الذي يسمى (موقوف له حكم الرفع).
ب- القرآن الكريم كله منقول إلينا نقلا متواترا، وأما أحاديث البخاري فهي أسانيد لا ترقى كلها إلى درجة التواتر، لكنها صحيحة من حيث توفّر شروط الصحة (العدل والضبط والاتصال والخلوّ عن الشذوذ والعلة) لكن الصحيح على درجات فأعلاها المتواتر، وعليه فلا يصح القول؛ أن حديث البخاري يساوي القرآن، فهذا غلو ما أنزل الله به من سلطان، مع التأكيد أن الحديث الصحيح حجة سواء بلغ التواتر أم لم يبلغ.
ج- مع شدّة ضبط البخاري -رحمه الله وجزاه عن أمة الإسلام الخير- إلا أنه كغيره من أئمة الحديث لا يمكن أن يتحرّز عن الرواية بالمعنى، خاصة في باب السير والقصص الطويلة والحوارات ونحوها، ولذلك تجد القصة الواحدة تأتي بألفاظ مختلفة وإن كان مؤدّاها واحدا، أو متقاربا، وهذا أمر طبيعي فالصحابة مثلا إذا حضروا مشهدا معينا ثم رووه لأولادهم فإن كل صحابي سيختار موضع الشاهد، وقد يختصر وقد يذكر القصة بطولها، لأنه لا يوجد هنالك نص مكتوب.
وفي هذا جواب لمن يسأل؛ أين خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولماذا لم تنقل لنا جميعها؛ كل خطبة كما هي؟ وكأنه يظن أن كل صحابي كان معه آلة تسجيل. فلذلك نقول: إن خطبه عليه الصلاة والسلام نقلت إلينا نعم لكن على شكل نصوص وعبارات مقطعة لأن هذا كان متعذّرا
د- وبناء على ما مرّ، كان للفقهاء مناهج (أصولية) لضبط الاحتجاج بالحديث ولو كان صحيحا في نفسه، فالحديث لا يقدّم على القرآن، ولا على المبادئ الشرعية المتفق عليها، والحديث الموقوف على الصحابي يضيفون عليه شروطا أخرى. وهكذا
5- فأهل السنّة إذن لا يدافعون عن صحة أحاديث البخاري دفاعا عاطفيا، ولا يدّعون العصمة له، ولا لغيره مهما علا كعبه في العلم والتقوى، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم حينما يقولون: (كل ما في البخاري صحيح) فإن لهم تفصيلا علميا دقيقا في ذلك بلا إفراط ولا تفريط
6- كما أن تضعيف الرواية لمجرّد وجود إشكال في متنها (نصّها) هو عمل مناف لأبسط قواعد العلم، إذ مؤدّى ذلك تضعيف كل حديث جاء بهذا السند، ولذلك فرّق علماؤنا بين (نقد المتن) و(نقد السند)، بل وفرّقوا بين (نقد المحدّثين للمتن) والذي يعتمد في الغالب على المقارنة بين الروايات، وبين (نقد الفقهاء للمتن) والذي يعتمد على مقارنة الأدلّة وقواعد الاجتهاد واستنباط الأحكام
7- أخيرا؛ نصيحتي للشباب ممن لم يتبحّروا في علوم الشريعة، أن لا يتسرّعوا في الأخذ والرد، والإفتاء في هذه المسائل الخطيرة، سواء من المتأثرين بالشبهات، أو المندفعين بردة الفعل المعاكسة
والذي قدّمته هنا لم أقصد به الجواب عن كل شبهة أو تساؤل، وإنما لتقديم نموذج لمدى اهتمام العلماء وتفصيلاتهم الدقيقة في هذه الأبواب من أبواب العلم، فليس هناك سطحية ولا عشوائية ولا مواقف عاطفية. فليتق الله من يسمح لنفسه أن يخوض في هذه المسائل بلا سند من علم ولا حصانة من ورع
وصلى الله وسلّم على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.