مقالات

د. عبد العزيز كامل يكتب: رحيل.. بقايا الرعيل!

رحل عن عالمنا أحد أعلام زماننا، وأندر رجال الحق ثباتا في دعواتنا..

ربما لا يعرفه الكثيرون.. ولكن كثيرين تعرفوا به على الأصالة والبطولة وتمام الرجولة..

إنه فضيلة الأستاذ الدكتور محمد مأمون زكريا، أحد أقدم الدعاة العاملين بذلا، وأكثرهم تواضعا وزهدا -هكذا نحسبه- والله حسيبة.

الشيخ من الرعيل الذي صاحب في شبابه صاحب الظلال، واعتقل معه حتى قضى نحبه، وظل هو فيمن ينتظر، جلدا صلدا في ثباته رغم تكرار الاعتقال مرات ومرات بعد عهد عبد الناصر لعشر سنوات، ثم تعدد دخوله السجن في عصر السادات، وأضعاف ذلك في زمان مخلوع الثورة، وظل حتى زماننا هذا العجيب؛ وهو يبث التفاؤل والأمل والبشرى بنصر الله وفرجه القريب..

توفي عن عمر يناهز التسعين، بعد عودته من آخر عمرة في الشهر الماضي، بعد أربع سنوات من منع تجديد جواز سفره للعمرة التي كان يعشقها ويداوم عليها كل عام بحسب ما أعلم..

وكنت طوال إقامتي في بلاد الحرمين مدة التسعينيات وما بعدها، ألقاه كل عام في عمرة رمضان، وكنت أتعرف على موعد وصوله وأنا في الدور الثاني في الاعتكاف. عندما أتفحص عن بعد ركن الحجر الأسود، حيث لا تخطئ عيني رجلا طوالا يلف على رأسه “شالا”.. ويتميز عمن حوله بطول القامة، وينتظر في رفق دوره في تقبيل الحجر أو استلامه دون ملل في كل شوط من الطواف.

عرفت الشيخ لأول مرة في اعتقالات عام ١٩٨١، حيث زج العسكر به إلينا في العنبر المكتظ بالشباب وقتها، وإذا بقدميه تنزفان من الضرب الشديد بالعصي، وهو الأستاذ الحاصل على الدكتوراه في الهندسة النووية!!

 ثم صار يصلي بنا ويقنت فينا، ويحافظ على حلقات التلاوة اليومية، شاملا الجميع بأخلاق عالية مع سمت متميز متواضع، فقد كان الدكتور الجامعي دائم البسمة مع دوام الدمعة، حتى لا تكاد تعرف وهو يتكلم.. أيضحك هو أم يبكي..؟

وكل من يعرفه يتعرف بسلوكه على فضيلة المحافظة الراتبة على نوافل الصيام والقيام وتلاوة القرآن..

كان -رحمه الله- على كبر سنه ووهن عظمه.. يتعاهدني بالزيارة بنفسه -تواضعا ووفاء- ضمن زياراته الدعوية، مؤثرا نفسه بالسبق إلى التواصل قائلا.. أنا أنشط منك فلا تحرمني.. وقد فاجأني بما أبكاني في آخر لقائي به حال مرضه وهو في غرفة العناية قبل نحو شهرين، وقبل أن يغادر لآخر عمرة في عمره، حيث ما كاد يعلم بزيارتي له على كرسيي المتحرك؛ حتى قام من سرير مرضه واقفا ومسرعا إلى الباب ليعانقني قبل أن أتمكن من القيام واقفا لتقبيل رأسه..

أرجو الله أن ينزله منازل الشهداء، فقد مات مبطونا بعد أن عاش مظلوما..

فاللهم أكرم نزله.. ووسع مدخله.. واغسله بماء الثلج والبرد، واجزه بالإحسان إحسانا، وبغير ذلك عفوا وغفرانا.. واجعل قبره روضة من رياض الجنة، وأسكنه دار الخلد في عليين، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين..

اللهم آمين.

د. عبد العزيز كامل

‏دكتوراة في أصول الدين‏ في ‏جامعة الأزهر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى