مقالات

د. إسماعيل علي يكب: الاحتفال بالمولد النبوي

في كل عامٍ تثار مسألةُ حكمِ الاحتفال بالمولد النبويّ، وتتنوع الآراء والفتاوى بين الغلوّ والتفريط، وقليلٌ منها يسلك منهج الوسطية، وقد سئلْتُ -ولا أزال أُسأل- كثيرًا هذا السؤال، وأقول ـ وبالله التوفيق ـ:

مدخل

بدايةً تجدر الإشارة إلى أنّ هناك طائفةً مِن أهل العلم في العصر الحاضر يتوسعون في تحريم المباحات، ولهم مقلِّدون متعصبون!!

وهؤلاء لهم دليلان ثابتان، يتمُّ استدعاؤهما في أكثرَ ما يفْتون بتحريمه، مما لم يُحرِّمه الله في كتاب أو سنة!!

أما الدليل الأول ـ وهو حاضر معهم على الدوام ـ؛ فيتلخص في مقولة: “أنّ هذا الأمر لم يفعلْه النبي ﷺ ولا الصحابة”.

وأما الدليل الآخَر؛ فهو «سدّ الذرائع»؛ حيث إنه كثيرًا ما يقول قائلهم: «هذا الأمر ذريعة إلى الشرك.. ذريعة إلى الفتنة».

والواقع أنّ هذا النهج في الفتوى يحتاج مِن أصحابه إلى إعادة نظر.

ذلك أنّ كوْن هذا الأمرِ أو ذاك لم يفعله النبيُّ ﷺ لا يدل على التحريم؛ لأنّ ترْك النبيِّ ﷺ لأمرٍ مّا لا يدل على تحريمه بإطلاق.

ويؤيد هذا قولُ الله تعالى: {ومَا آتَاكُمُ الرّسُولُ فخُذُوهُ ومَا نهاكُمْ عنْهُ فانتَهُوا} [الحشر: 7]، فلم يقل لنا: وما ترَكه فاتركوه، وقولُ النبيِّ ﷺ -فيما أخرجه مسلم، من رواية أبي هريرة-: «ما نهيتُكم عنه فاجتنبوه، وما أمَرتُكم به فافعلوا منه ما استطعتم»، ولم يقل: وما تركْتُه فاتركوه، وفي حديث الطبرانيّ والدارقطنيّ -مرفوعًا، من رواية أبي ثعلبة الخُشَنيّ-: «إن الله فرض فرائض فلا تضيّعوها، وسنّ لكم سُننًا فلا تنتهكوها، وحرّم عليكم أشياءً فلا تعتدوها، وترك بين ذلك أشياء من غير نسيان من ربكم؛ رحمةً منه فاقبلوها ولا تبحثوا عنها» (قال الهيثمي: رجالُه رجالُ الصحيح).

ثم إنه لو أفتينا بتحريم كلِّ ما لم يفعله النبيُّ ﷺ لضيقنا دائرة الإباحة، ووسعنا دائرة التحريم، وهذا مخالف لمنهج الشريعة الإسلامية.

ثم إنّ الشريعة التي جاءت بسد الذرائع جاءت كذلك بالتيسير ورفع الحرج، كما قال الله تعالى: {ومَا جَعَل علَيكُمْ في الدِّينِ مِنْ حَرَج} [الحج: 78]، وقوله عز وجل: {يريدُ اللهُ بكُمُ اليُسْرَ ولَا يريدُ بكُمُ الْعُسْرَ} [سورة البقرة: 185].

وإذا كان “سدُّ الذرائع” مِن أدلة الأحكام؛ فلا نُغفل أنّ منها كذلك “الاستصحاب” و “العرف”.

 وأما بخصوص حكم الاحتفال بالمولد النبويّ؛ فأقول:

إذا كان الاحتفال بذكرى مولد المصطفى ﷺ بعيدًا عن المخالفات الشرعية، كأن يتمَّ ـ مثلا ـ عن طريق استثمار المناسبة في تذكير المسلمين بسيرته ﷺ، وحثِّهم على التمسك بالشرع، والاقتداء بالهدْي النبويِّ في سائر أمورهم، وبيان شمائله ﷺ للتعريف به ﷺ وتعميق محبته ﷺ في النفوس، مع الابتعاد عن المخالفات الشرعية كالرقص في المساجد، ونحوه مما يقترفه غلاة الصوفية، وعدمِ الاعتقاد بأنّ الله تعالى قد تعبّدَنا بالاحتفال بذكرى الميلادِ النبويّ؛ فهذا لا مانع منه شرعًا.

ولا يُوجد دليل قطعيٌّ في تحريم مبدأ الاحتفال، ولا يمكن القول بأنه بدعة؛ لأننا نجيز هذا من باب توظيف المناسبة على النحو الذي أشرْتُ إليه، وليس من باب أن الاحتفال عبادةٌ تُضاف إلى العبادات التي شرعها الله تعالى، أو أنه من الأعياد التي جاء بها الشرع.

أما الإنكار بدعوى أنّ هذا لم يفعلْه الصحابة ولا التابعون؛ فلا ينهض دليلًا لأصحابه، وليس كلُّ ما لم يفعلْه السلف يُعدُّ فعلُه بدعة منكرَة، بل إن الأصل في مثل هذه الأمور هو الإباحة، وعلى مَن ينكرون أن يأتوا بدليلٍ يُخرج مسألة الاحتفال عن حكم البراءة الأصلية وهو الإباحة. والله ـ تعالى ـ أعلم.

تعقـيب

إنني لست ممن يتكلفون الدعوة إلى إقامة احتفالات بذكرى المولد الشريف، كما أنّ إقامةَ احتفالٍ بالطريقة المشروعة، أو تركَ الاحتفال -حسب ما تقتضيه الظروف- كلاهما عندي سواء.

وقد قضيتُ عُمري -ولا أزال- داعيًا لاتباع السنة، ومحاربًا للبدع عامة، والتي تصاحب ذكرى المولد خاصة، وكم تكلفنا عناء الوقوفِ في وجه أصحاب البدع من المتصوفة غير المنضبطين بضوابط الشرع، وكذا الوقوفِ ضدّ غلوِّ أدعياء السلفية.

هذا موقفي؛ لكن أمانة العلم ومسؤوليته تقتضي أن نكون منصفين، وأن نتجنب القولَ على الله بغير علم، وتحريمَ ما لا أرى ـ بحسب ما أعلم ـ وجهًا للقول بتحريمه، والأمر ـ في نظري ـ لا يعدو كونَه اختلافًا في الرأي، ينبغي العملُ على ترشيده، والتعاملِ معه بالمنهج العلميّ والإنصافِ، والإنكارِ على مَن يتجاهل كونَ المسألةِ خلافيةً، ويتعصّب لرأيه مِن كلا الفريقين تعصّبًا ممقوتًا، ينطلق مِن الاعتقاد بأنّ رأيَ أحدِهم صوابٌ لا يحتمل الخطأ، ورأيَ مخالفِه خطأٌ لا يحتمل الصواب.

اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك وحبيبك محمد ﷺ، والحمد لله رب العالمين.

د. إسماعيل علي

أستاذ الدعوة الإسلامية والأديان جامعة الأزهر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى