مقالات

د. محمد عياش الكبيسي يكتب: يا ويل الخائضين في دين الله بغير علم

حذّرنا الله تعالى من التحليل والتحريم بغير هدى ولا علم وسمّاه «كذبا» فقال تعالى: (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام)، وقال أيضا: (أتقولون على الله ما لا تعلمون)، وجاء في صحيح البخاري التحذير من الفتوى بغير علم: “فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلّوا”.

سئل أخونا الشيخ الدكتور وليد الحسيني سؤالا حول «قرض الإسكان» فأفتى السائل بما آتاه الله من علم، وهذا هو الأمر الطبيعي، سواء اتفقنا مع الشيخ أو خالفناه-وأنا من الموافقين له-ثم لأي صاحب علم أن يناقش الشيخ فباب الاجتهاد والحوار بين أهل العلم مفتوح، وتاريخنا الفقهي حافل بهذا، فالشيخان؛ أبو يوسف ومحمد بن الحسن خالفا أستاذهما الإمام أبا حنيفة في كثير من المسائل، وهذه حالة من آلاف الحالات.

أما ما يتكرر من بعض الناس في كل مسألة من جرأة على دين الله بغير علم حتى ممن لا يحسن القراءة والكتابة فينصّب نفسه مفتيا وقاضيا، فهذه فوضى و«كارثة معرفية وتربوية خطيرة» أسهمت بها برامج التواصل الحديثة حيث أسقطت الحشمة والحياء وأسقطت كذلك الحواجز بين أهل العلم وأهل الجهل.

وأنا هنا لا أنتقد «المتشدّدين» فقط، وإنما أنتقد أيضا «المميّعين» فكل من سمح لنفسه أن يفتي بغير علم فهو آثم وظالم لنفسه، سواء اتجه يمينا أو اتجه يسارا.

تسمعهم وهم يتقاذفون القواعد الشرعية فتعجب لما تسمع وتنصدم لهذه الجرأة، خذ مثلا هذه القاعدة العظيمة «الضرورات تبيح المحظورات» كيف أصبحت عند البعض -والسياسيين خاصة- كيسا مطّاطا ينسف كثيرا من ثوابت الإسلام، فكل شيء صار عندهم معروضا للتنازل حتى الترويج للعقائد الفاسدة والدعوات الهدّامة، وتغيير ثوابت الولاء والبراء، بينما الصحيح أن قاعدة الضرورات هذه ليست على إطلاقها، فالضرورة لا تندفع بمثلها ولا بما هو أشدّ منها، ولذلك لا يجوز للمسلم أن يقتل مسلما حتى لو أكره بالقتل إن لم يفعل، وضرورة الدين مقدّمة عندنا على ضرورة النفس، ولذلك كان مقام الشهيد عظيما عند الله تعالى لأنه ضحى بنفسه في سبيل دينه، والخلاصة أني أرى جهلا وخلطا كبيرا في هذا الباب تحت عنوان “فقه الاضطرار” وغالب كلامهم ليس من الفقه في شيء.

وفي المقابل ترى الآخرين ممن لا يرون الخروج على (حكم الأصل)، ولذلك تراهم يرددون النصوص المؤصلة لأصل الحكم، مثل: (وأحلّ الله البيع وحرّم الربا) و (فأذنوا بحرب من الله)، وهم ينظرون إلى من يجتهد في مساحة (حكم الاستثناء) كأنه يشرّع من عند نفسه، مع أن القرآن الكريم نفسه قد نص على استثناءات كثيرة، فأوجب الحجّ على الناس أصلا ثم استثنى بقوله (من استطاع إليه سبيلا)، وأوجب صوم رمضان أصلا ثم استثنى (فمن كان منكم مريضا أو على سفر) وحرّم التلفظ بالكفر ثم استثنى: (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) وحرّم الميتة ونحوها أصلا ثم استثنى: (من اضطر غير باغ ولا عاد). فهذه منهجية القرآن، وهي منهجية قابلة للقياس بشروطه، ولذلك أوقف عمر بن الخطاب -رضي الله عنه -حدّ السرقة عام المجاعة.

وعلينا هنا أن ندرك أيضا أن العالم الذي يأخذ بحكم (الاستثناء) ليس بالضرورة أن يكون مخالفا للعالم الذي يبقى على حكم (الأصل)، فالخلاف بينهما إنما هو في تقدير الظرف الذي يستدعي الاستثناء، ففتوى شيخنا العلامة يوسف القرضاوي بإباحة قرض الإسكان في الحالة العراقية خاصة -والتي ذكرتها سابقا وسأفصلها لاحقا إذا دعت الحاجة- لا تخالف فتوى شيخنا العلامة عبد الملك السعدي الذي يحرّم هذا القرض، فهما متفقان على حكم الأصل أن الربا حرام، لكن الشيخ القرضاوي تشكلت عنده قناعة كاملة بضرورة الأخذ بحكم الاستثناء، بينما الشيخ السعدي لم يصل إلى هذه القناعة، أو أنه يرى هناك بدائل مثل الضغط على الحكومة لتعديل هذا القانون، فكلاهما ينطلق من أصول علمية راسخة، ولا مكان هنا للهوى والمزاج -نعوذ بالله من ذلك-.

فيا ناس اتقوا الله في أنفسكم وفي دينكم وفي علمائكم

والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلّم على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.

د. محمد عياش الكبيسي

مفكر وداعية إسلامي، دكتوراه في الفقه الإسلامي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى