أقلام حرة

محمد نعمان الدين الندوي يكتب: جامعة الواتساب

أكبر جامعة على وجه الأرض..

كما هي – في نفس الوقت – أغرب جامعة، أو قل: «الجامعة / النشاز».. نغمة نابية عن مثيلاتها..

لماذا سَمَّيتُها: «أغرب جامعة».. أو «الجامعة / النشاز»؟

لأنها تجمع من التناقض والتباين، والشذوذ الفاضح المرفوض -في سلوكياتها وأخلاقياتها، ومقرراتها ومنشوراتها، ومخالفاتها للخطوط الحمراء- ما لا يكاد يجد الإنسان له تفسيرًا ولا تبريرًا..

فهي ليست كالجامعات العاديّة، التي تستقبل الشبان والشابات.. و-كذلك- المواد التي تُدَرَّس فيها، تكون مواد معينة متشابهة..

بل إنها -جامعة الواتساب- جامعة مختلفة تمام الاختلاف عن الجامعات الأخرى.. (١)

جامعة مفتوحة أبوابها للجميع.. فترحب كل من يرغب في الالتحاق بها من الذكور والإناث، والأطفال والشبان والشيوخ، والعجزة والمعاقين، والصالحين والطالحين، والملوك والوزراء والأمراء، والمثقفين والجاهلين، والأغنياء والفقراء، والأقوياء والضعفاء، والخاصة والعامة، وكل من شاء من بني آدم..

فعلًا.. إنها -جامعة الواتساب- أغرب جامعة، وحيدة من نوعها..

دوامها على مدار الساعة..

والالتحاق بها ميسر لكل من شاء.. ومتى شاء.. على مدار السنة.. بلا قيد أو شرط.. وبدون تمييز ولا تفريق.. أو انحياز أو محسوبية.. وبدون اختبار شفوي أو تحريري..

وتفتح أبوابها على مصاريعها.. بدون حارس ولا رقابة ولا نقاط تفتيش..

فروعها منتشرة من شمال الأرض إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها..

صوتها وأثرها وصل إلى كل بلد وكل مدينة وكل قرية بل كل بيت، وإلى معظم أفراد الأسرة بل العائلة..

وأعداد الملتحقين بها لا تقدر ولا تحصى..

أما موادها ومناهجها ومناشطها فحدث عن البحر ولا حرج..

فماذا أتحدث عن ذلك كله.. وكيف أتحدث؟

إنها -موادها ومناهجها ومناشطها- من الكثرة والشمول والاستيعاب والاختلاف والتنوع والتناقض بحيث لا يقدر على وصفه واصف مهما بلغ من العلم والخبرة والدراسة مبلغًا عظيمًا وشأوًا بعيدًا..

فإذا قلتُ: إن موادها ومناهجها ومناشطها -في الجملة- شيطانية.. لم يُخَطّْئني أحد…

على أن منها ما يصلح للاستفادة والاستئناس..

وللملتحق بها حرية كاملة في الاستفادة من كلا النوعين من المواد..

فمن شاء فليستفد مما فيها مما ينفع ويُصلِح ويفيد..

ومن شاء فليتعلم منها ما يضر ويُدَمّر ويُفسد.. {وهديناه النجدين} {من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر}.

فإنها جامعة تضر وتنفع.. تُفسد وتُصلح.. تهدم وتبني.. تُجَهّل وتُعَلِّم معًا..

ولكن -للأسف الشديد- أعداد من يَفسُد من الملتحقين بها أكبر بكثير ممن يَصلُح منهم…

إنها -أعداد الفاسدين- أعداد هائلة مخيفة..

أما عدد الصالحين من الملتحقين بها فعدد ضئيل جدًا..

الحقيقة أنا لا أتهم «جامعة الواتساب» ولا أحملها مسؤولية من يفسد فيها أو بها…

ولكن الذنب.. ذنب الذين يتعلمون فيها ما يضرهم ويضيع أوقاتهم بل حياتهم.. ولا يختارون من موادها ومناشطها ما ينفعهم في دنياهم وأخراهم..

فلا شك أنها – جامعة الواتساب – تزود الإنسان ببعض ما يهمه من أبواب الخير، والتوجيهات والمعلومات مما يتعلق بألوان وأطرافٍ من العلوم والفنون..

ولكنها -في نفس الوقت- تُعَلِّم الانحراف عن الجادة، وتهيئ أسبابه، وتسهل أمره، وتحبب ممارسته إلى المنتمين إليها، وتزينه في قلوبهم..

والجامعة -كذلك- تتيح الحرية التامة لكل من هب ودب أن يستخدم منصتها لنشر ما شاء من أنواع الخير والشر، والفضيلة والرذيلة..

فلا مانع لديها ولا تحفظ ولا تحذير ولا تنديد بما ينشر باسمها أو على منصتها من الخير والشر..

فمن هنا.. يجب التحقق والتأكد من صحة ما ينشر عبر الواتساب، والتثبت من سلامته من الخطأ والدجل، وكونه صالحًا للاعتبار والثقة والاعتماد.

فلا يؤخذ المنشور عبر منصات الواتساب على أنه مأمون الثبوت والدلالة، مضمون الصدق والصواب، غير قابل للتكذيب أو الشك والتشكيك فيه..  بل غير قليل – من منشورات الواتساب – يحتاج إلى الغربلة والتحقيق، والتثبت والتوثيق..

أكبر جناية للجامعة

لا ننكر مُنجَزَات: «جامعة الواتساب»، وما يسرت من التواصل والترابط بين أفراد البشر، والاستفادة من المكتبات والمجلات، والقيام بالمهام في أقرب وقت وبكل سهولة، وما إلى ذلك من التسهيلات ومظاهر النفع والارتفاق، التي توفرها جامعة الواتساب..

فرغم اعترافنا بالنواحي الإيجابية لهذه الجامعة..

هناك جوانب سلبية للجامعة -قد أشرت إلى بعضها- تكاد تغطي جوانبها الإيجابية، وتخفي آثارها..

فمما يؤخذ عليها أنها تنشر الأخبار بدون أن تمحصها أو تتأكد منها..

ومن هنا.. صارت تسمى -بجدارة-: «أكبر مصنع دولي» لنشر الأكاذيب والافتراءات والشائعات..

ولكن.. أكبر جانب سلبي أو قُلْ: أخطر جناية -عندي- للجامعة، أنها قللت أهمية: «الكتاب» الذي كان -ولا يزال- أعظم وأنفع وسيلة للحصول على العلم وتعليمه..

إنها قضت على: «ذوق المطالعة»، والرغبة في: «اقتناء الكتب».

أقفرت اليوم المكتبات من روادها، وخسرت دور الطبع والنشر كثيرًا من زبائنها المترددين عليها، فكسدت سوقها وتراجعت تجارتها.

 ويشكو المؤلفون -البؤساء المساكين- أن كتبهم لا تشترى.. فتتكدس وتتراكم في المستودعات.. فطفقوا يرغبون -بدورهم- عن طبع كتبهم.. وتبعة ذلك كله -طبعًا- على: «جامعة الواتساب».. لأنها قللت أهمية: «المطبوع» وجنت على تجارته..

فيما مضى من الزمان.. كان عشاق العلم يقضون لياليهم في رحاب الكتب، يشبعون نهمهم العلمي، ويرضون ذوقهم المعرفي..

أما الآن.. فكثيرون يسهرون في رحاب: «جامعة الواتساب» غير متورعين عن سماع أو مشاهدة ما ضرره أكبر من نفعه.. وشره أكثر من خيره.. إذا آثرنا جانب: «حسن الظن» في الساهرين مع برامج جامعة الواتساب ومناشطها..

ولكن إذا كنا أكثر صراحةً وأوضح بيانًا للحق والصواب.. والحق أحق أن يقال.. [على أن قائل الحق لا يسلم من أنياب تعضه، وتبلغ به أقصى الجراح].

إذا كنا أكثر صراحةً.. قلنا: إن أكثر الساهرين لا يرون ولا يسمعون إلا ما يجب اجتنابه من الأحاديث والمناظر، والمكالمات والمحادثات.. و.. و..

آه.. لقد غاضت بشاشة العلم في وجوه الشباب..

وغابت حركة العلم.. إن لم نقل: انعدمت وتلاشت..

ذبلت نضارة العلم من الطلاب.. ومعذرة على هذه الصراحة..

قَلَّتْ الحفاوة بالعلم..

تَفِه في ذوق الطالب طعْم العلم..

خمدت عاطفة تحصيل العلم، والرغبة في النهل منه، واقتباس نوره..

وذهبت أبهة مجالس العلم وبهاؤها..

وحلت محلها تجمعات المغرمين بـ: «جامعة الواتساب».

انتثرت مجالس العلم والمدارسة وتفرقت، وتكاد تخلو ممن كانوا يغشونها من المنهومين المشغوفين بالعلم.

وإذا قلتُ: إن جامعة الواتساب طمّرت فوهة ينبوع العلم أو كادت.. ما خفت أن أُتهم بالمبالغة في فضحها وتشويه سمعتها..

ألا.. إن جامعة الواتساب لا تعطي العلم، ولا تُمَكّن من التبحر فيه، بل تجفف منابع العلم..

وأقصى ما تستطيع أن تمد الإنسان بمعلومات أو نتف أو قشور من العلم.

وإنما العلم – بمعناه الحقيقي – يحصل بالكتاب.. وليس بالكتاب مباشرة.. بل بالتتلمذ للأساتذة المخلصين البارعين البررة..

وقد قال بعض الحكماء لابنه: «يا بني! خذ العلم من أفواه الرجال، فإنهم يكتبون أحسن ما يسمعون، ويحفظون أحسن ما يكتبون، ويقولون أحسن ما يحفظون»..

يا عباد الله! اتقوا الله في استعمال الواتساب.. فلا تستخدموه إلا لضرورة قصوى.. والضرورة تقدر بقدرها..

استعملوه في التواصل مع الآباء والأمهات، والأبناء والأقرباء، والأصدقاء والمعارف.. أو لقضاء أهم حاجاتكم… ولا تفرِطوا في الاستخدام..

ويمكن -كذلك- أن تستفيدوا منه في أعمالكم العلمية والدينية.. ففيه -من المواد المتعلقة بما يهمكم- ما يوفر لكم الجهد والوقت والعناء..

وحذروا أولادكم منه، وخوفوهم إياه.. كما تخوفونهم الحياتَ والثعابينَ.. فقد يَلفح سَمومُه براعمَكم..

ألا.. إن الواتساب في أيدي الصغار ضرره أشد وأخطر، وأدهى وأمرّ…

فهو – الواتساب – قد يدمر تعليمهم ووقتهم، وخلقهم ورجولتهم، ودينهم وعقيدتهم، وصحتهم وشبابهم، بل ربما يقضي على حياتهم..

وأخيرًا.. لا آخرًا.. إن جامعة الواتساب لا تُخَرّج إلا جيلًا هشًا ضعيفًا، مقبلًا على ما لا يعود عليه بطائل، غير مُولٍ للكتاب أهميته، ولا محترِمٍ للعلم وحامليه، ولا مضطلع بعظائم الأمور وجلائل الأعمال، التي قامت بها الأجيال التي سبقت عصر «جامعة الواتساب»

إنها لا تستطيع أن تعد الرجال، أو تنجب الكفاءة والمقدرة، أو النبوغ والبراعة، والعلم والتقوى.. أو تفجر القرائح وتبرز المواهب..

بل -بالعكس- إنها قد تميت الرجولة، وتُخمد النبوغ، وتذهب الإبداع، وتقضي على الموهبة، وتدفن التقوى..

 الأساتذة المخلصون في المدارس والمعاهد هم الذين يصنعون الرجال ويربون القادة والعباقرة، ويكتشفون مواهب تلامذتهم ثم يجِدُّون في صقلها.. فتتربى على أيديهم النوابغ الذين يبدعون في العلوم والفنون..

والأمة ليست بها حاجة إلى خريجي جامعة الواتساب.. فلا خير فيهم ولا كفاية.. بل الأمة منهم براء.. وعنهم في غنى..

فالله.. الله.. يا شباب الأمة.. انظروا إلى مصلحتكم أنتم.. إذا كانت مصلحة غيركم لا تهمكم.. كما كان قال إقبال:

«انزل في أعماق قلبك، وادخل في قرارة شخصيتك، حتى تكتشف سر الحياة، ما عليك إذا لم تنصفني وتعرفني، لكن أنصف نفسك يا هذا، واعرفها، وكن لها وفيًا». (٢)

وإنصاف النفس واكتشاف سر الحياة لا يمكن بإضاعة الحياة في: «جامعة الواتساب».

الهوامش

(١) أعني -هنا- بـ: «الواتساب» الاستخدام لأجهزة الهاتف المحمول ووسائل التواصل الاجتماعي، وغيرها من أشكال التواصل الرقمي.

(٢) ترجمة شعر إقبال الشهير:

اپنے من میں ڈوب کر پا جا سراغ زندگی ۔۔۔ الخ

(الخميس: ١٥ من ربيع الأول ١٤٤٦ھ – ١٩ من سبتمبر ٢٠٢٤م)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى