مقالات

د. محمد جلال القصاص يكتب: حيث يحسن وحيث يحب

من مظاهر الحرية في النموذج الحضاري الإسلامي إطلاقُ سراح الناس إلى ما يحبون.. إلى ما يحسنون. حين يشب المرء يشتد إلى ما يحب أو إلى ما يحسن، إن كان محبًا للقتال التحق بالثغور: يتدرب ويتسلح ويجاهد مع المجاهدين دفاعًا عن الدين واعتاقًا لرقاب المستضعفين من المتكبرين في الأرض بغير الحق؛ وإن كان من أهل التجارة ذهب إلى السوق يتاجر؛ وإن كان حرفيًا فإلى ما يحسن من حرفة؛ وإن كان ممن يحبون العلم، تربع بين يدي العلماء في بيوت الله، في مجلسٍ تخشاه السكينة والوقار.

ولم تكن الحرية في التوجه العام فقط. بل كان التوجه العام الواحد (جهاد، تجارة، زراعة، تعلم، حرفية…) به عديد من التخصصات؛ فهذا الذي قد يمم وجهه شطر حِلَقِ العلم -مثلًا- يجد نفسه أمام ثمار شهية، بعضها قرآن كريم (تلاوة.. قراءات)، وبعضها تفسير، وبعضها حديث، وبعضها فقه، وبعضها شعر، وبعضها مما ابتدع في الدين (كعلم الكلام).

وليس فقط تعدد أفقي للتخصصات. بل وتعمق في كل تخصص، ففي كل تخصص عديد من الطبقات، فأهل الفقه ليسوا سواء، وأهل التفسير ليسوا سواء، والقراء ليسوا سواء… طبقات بعضها فوق بعض. كل حسب ما يوفقه الله إليه، حتى ينتهي الأمر بأن يكون الفرد علامة على نفسه، يقف حيث هو وحده مميزًا بما من الله به عليه من صفاتٍ (حميدة أو ذميمة).

والدولة لا دخل لها بحركة الأفراد، لا تأمر أحدَهم بأن يتخصص في هذا أو ذاك. بل تكفل للفرد الحد الأدنى من المعيشة من بيت المال. وفي كل تجمع سكاني حاكم، وبيت مال، يأخذ الحاكم من الغني ما فرضه الله عليه من زكاة ويوضع في بيت المال ويوزع بعد ذلك على الفقراء والمساكين ويوزع في التمكين للدين، فلا فقر ولا مهانة. لا يمنُّ الغني على الفقير، ولا يمد الفقير يده للغني. حرية وأمان مادي، وتفعيل تام للإنسان حيث يحب، أو حيث يحسن.

وهكذا كان الصحابة، رضوان الله عليهم، كل حيث يحسن، بعضهم لا تكاد تسمع به إلا في التجارة، وبعضهم في القتال، وبعضهم في الرأي والمشورة…. كلٌ نجمٌ ساطعٌ في مكانه.. والجميع يحضر المواقف العامة، ويبز في المواقف العامة من يناسبها، فقبل القتال يبرز من له رأي في تحديد موضع القتال، وحال القتال يبرز أهل الاختصاص: مبارزة، رمي،.. ومواقف الرأي – كما حدث في الموقف من أسرى بدر- يتحدث أهل الرأي فقط، وهكذا..

ولا يظنن أحدٌ أن الناس إن تركوا فإنهم يسيرون في اتجاه واحد، أو يتجمعون في تخصص بعينه؛ أبدًا، لا يحدث هذا، لخمسةٍ:

أولها: أن التفاضل في المجتمع الإسلامي بالتقوى لا بالوظيفة كما هو حاصل اليوم، ففي نموذجنا الحضاري أكرم الناس أتقاهم، وأحسنهم خلقًا. {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].

وثانيها: أن الناس بطبعهم مختصون، كلٌ له ما يحسنه أو ما يحبه؛ وحين يترك لهم العنان لا يتجمعون في نقطة واحدة. يحدث هذا في النموذج الغربي الذي نعيشه، فالدخل المادي والنفوذ الاجتماعي مرتبط بالوظائف في الغالب.

وثالثها: أن في الشريعة ما يعرف بـ “فروض الكفايات”، وهي فروض إن تركت يأثم الجميع. فأحوال الناس كلها بين فروضٍ واجبة وفروضِ كفاياتٍ، وبالتالي تسد كل حاجاتهم، ويستقيم المجتمع متزنًا بلا خلل، كما قد كان لقرون طوال.

ورابعها: أن الفرد كان يتحرك في مساحة كبيرة من الأرض دون أدنى عائق سلطوي أو اجتماعي. حيث شاء يحط رحاله كأنه قد ولد في ذات البلد، فمن الصين (تركستان المحتلة الآن) إلى جنوب فرنسا يتحرك من شاء متى شاء حيث شاء آمنًا مطمئنًا.

وخامسها: في نموذجنا الحضاري تكون الرتب بالأفعال لا بالدعاوى، والمهام تسند ولا تطلب، فالناس لا يستفتون جاهلًا لأنهم أتقياء، أو متدينون في الجملة، والعالم يعيش بينهم ويعرفونه، ولا يدعي أحد الجندية ثم هو يجلس بينهم بعيدًا عن الثغور.. يعربد تجارةً وإرهابًا للآمنين؛ ولا يُؤمن المجتمعُ الخائنَ على ما أوقفوه لفروض الكفايات، فهي أموالهم، دفعوها من قوتهم أو ينتظرون الإفادة منها،

واليوم:

نساق كلنا في مسارٍ واحدٍ، لا ينظرون للفروق الفردية، لا ينظرون للمواهب الشخصية، كأننا قطيع وسائقنا من قد رشد..

نساق إلى مسارٍ واحد: الذكور والإناث، الأذكياء والأغبياء، محبي الحرفة ومحبي التعلم والمطالعة؛ ولذا يتسرب الناس من التعليم، ولذا يكون الفرد مزدوج الشخصية، يتأرجح بين تخصصين أو أكثر، ما يحسنه وما هو مضطر إليه كسبًا لقوت يومه، فتجده صيدلي وسياسي، مهندس وشاعر، محامي وتاجر، فلا يحسن الهندسة ولا يحسن الشعر. ويفقد المجتمع التخصصية العالية التي تنفع الناس. إننا نمتلك أرقى وأبهى نموذج في التاريخ، وإننا -اليوم بما استوردناه من حضارة غيرنا- نضيع الأوقات والأعمار، فمتى نعود؟!

د. محمد جلال القصاص

دكتوراة علوم سياسية كلية الاقتصاد والعلوم السياسية- جامعة القاهرة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى