مقالات

مختار محمود يكتب: حكايات صائم الدهر مع الكتاب والسُّنَّة

يجب أن يتجاوز احتفاؤنا ببعض قراء القرآن الكريم وحديثُنا عنهم إلى آخرين ممن أسهموا بجهد عظيم وبلاء حَسَن في خدمته شرحًا وتفسيرًا وتوضيحًا وتيسيرًا لفهم معانيه وسبر أغواره. ومن هؤلاء الذين تفانوَا وبذلوا العُمر في مِحراب كتاب الله وسُنة رسوله أيضًا الأستاذ الراحل محمد فؤاد عبد الباقي، الذي عاش بين عامي 1882-1968، والموصوف بأنه «لا يستقيم علمٌ من دون الاستعانة بجهده»! نعم.. هذه ليست مُبالغة؛ فالرجلُ أنجز خلال أكثر من نصف قرن ما لم يُنجزه أزاهرة ومُعممون وأكاديميون ومشايخ وشيوخ طرق صوفية من أصحاب الألقاب الفخيمة والدرجات الرفيعة والكرامات الوهمية والعباءات الحريرية والطواقي المُلونة!

يُنظر إلى محمد فؤاد عبد الباقي باعتباره «أول وأبرز مُسلم وضع الفهارس الدقيقة لألفاظ القرآن الكريم والأحاديث النبوية، والنموذج الأمثل للمُجاهد في سبيل العِلم». أنجز الرجل -المولود في محافظة القليوبية- وحدَه ما قد تعجز المؤسسات العلمية المتخصصة عن إنجازه في زمن لم يكن قد شهد هذه الثورة التكنولوجية المُتسارعة، كما إنه -بنظر المُنصفين والثِّقات- سيدُ المُحققين في زمانه؛ بسبب ما أتمَّه من مُنجز علمي يتصل اتصالا وثيقًا بنصوص العقيدة من القرآن الكريم والحديث الشريف. ورغم المسيرة العلمية والأدبية الثرية والفائقة والناصعة للرجل، فإنك قد لا تجد احتفاءً أو تذكِرة به في ذكرى ميلاد أو وفاة، ولن يُصادفَك في أغلب الأحوال برنامجٌ يحكي جانبًا من سيرته، ولن تشاهد فيلمًا وثائقيًا عن مؤلفاته، ولن تتذكره الدولة المصرية يومًا؛ لتكرِّم اسمه في المناسبات الدينية المُتعاقبة!

أقبل «عبد الباقي» على أمهات الكتب في الأدب العربي، كما كان واسع القراءة والاطلاع في الأدب الفرنسي، خاصة لـ«فيكتور هوجو»، و«لامارتين»، وتوسَّع في دراسة الإنجليزية، فالتحق بمدرسة «برلتز»، وهو ما مهَّد لظهور باحث ومُحقق موسوعي من طراز فريد. كان –رحمه الله تعالى- عاشقًا للتأنق، وراغبًا في الكمال بكل شيء. كان أكثر ما يثير غضبه الخطأ في الدين، وعدم الأمانة في العِلم.  كما كانت سيرة الرسول صلي الله عليه وسلم هي أكثر ما يهزُّ وجدانه، ويثير مشاعره رقةً وحنانًا. عمل مُحررًا في مَجمع اللغة العربية “الخالدين”، وافتتح دارًا للنشر الإسلامي مكث يديرها طويلا، فضلاً عن عضويته في اللجنة الاستشارية للمجامع العلمية للمستشرقين، قبل أن يتفرغ للتأليف والكتابة بشكل كامل.

التزم الباحث والمُحقق الكبير -رحمه الله- في أُخريات حياته بنظام نباتي صارم، مع الصيام بصورة شبه دائمة، وكان لا يتناول سوى وجبة وحيدة في اليوم، وكان لا يفطر في العام كله سوى يومين، هما: أول أيام عيد الفطر وأول أيام عيد الأضحي، حتى أسماه تلامذته: «صائم الدهر»، كما كان زاهدًا في الاجتماعات والتعارف والتواصل مع الناس؛ حتى لا يتعطل عن إنجازاته في التأليف والكتابة. ولم يكن لمثل هذه الأعمال العظيمة التي أبدعها أن ترى النور، لو لم يكن وراءها صبرٌ شديدٌ، وعزيمة قوية، ودِقة متناهية، وحياة منضبطة، وتوحيد للهدف، وتجرُّد وإخلاص، وهكذا كانت حياة الرجل.. بحسب ما ورد في شهادة الكاتبة الكبيرة نعمات أحمد فؤاد التي لزمته فترة من عمره، وشهادات محدودة لباحثين آخرين.

كما اقتحم «عبد الباقي» ميدان فهرسة السنة النبوية من باب الترجمة بمراجعة وترجمة «المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي»، فإنه دخل أيضًا ميدان فهرسة ألفاظ القرآن الكريم من الباب نفسه؛ حيث ترجم كتاب «تفصيل آيات القرآن الكريم» لـ«جول لابوم» عن الفرنسية، ونشره في العام 1934،، لكنه لم يكن كافيًا لسد الغرض، فرغب في وضع معجم دقيق لألفاظ القرآن الكريم؛ يُعين الباحثين في الوصول إلى أية آية قرآنية، إذا استعان بكلمة منها، وتطلب منه ذلك أن يُفرِّغ جميع الكلمات الواردة في القرآن الكريم، ويُرتبها حسب حروف المُعجم، مع الأخذ في الاعتبار ردَّها إلى أصولها اللُّغوية، وجاء عمله مُكتملاً، لم يستدرك عليه أحدٌ من العلماء سقطًا في معجمه، من فرط مبالغته في المراجعة وحرصه الدائب على الدقة، وشاء الله أن يكون هذا المُعجم خاليًا من الخطأ والسهو والزلل، وقد تلقت الأمة هذا العمل بالقبول، ورزقه الله الذيوع والانتشار.

أثرى محمد فؤاد عبد الباقي المكتبة الإسلامية بآثار علمية عظيمة، من بينها: «المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم»، «اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان»، «تيسير المنفعة بكتابي مفتاح كنوز السنة»، «المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي الشريف»، «معجم غريب القرآن»، و«المسلمات المؤمنات: ما لهن وما عليهن من كتاب الله والحكمة». كما ترجم «مفتاح كنوز السنة» عن الإنجليزية، و«تفصيل آيات القرآن الحكيم» عن الفرنسية، وأشرف على تصحيح: «محاسن التأويل»، و«شواهد التوضيح والتصريح لمشكلات الجامع الصحيح»، و«تصحيح وترقيم الجزء الثالث من جامع الترمذي»، وهذا غيضٌ من فيض.

وفي العام 1967.. أصابته أحداث والنكسة وتداعيها -كما أصابت غيره- بحزن شديد وأزمة نفسية كبيرة، حتى لفظ أنفاسه الأخيرة في شهر فبراير من العام التالي؛ تاركًا وراءه إرثًا علميًا مشرفًا. والغريب.. أن الرجل لم ينل من التكريم والتقدير ما يستحقه، بل إن كثيرًا من الباحثين أعادوا تدوير أعماله وسطوا عليها دون خجل، غير أن هناك من الباحثين والمحققين من لا يزالون يُقرون فضله، ويعرفون له مكانته المرموقة وقامته العلمية السامقة.. رحم الله الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي وأحسن إليه، وجعل أعماله كلها في موازين حسناته.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى