مقالات

عامر شماخ يكتب: عام على «طوفان الأقصى» [4]

الصمودُ الأسطوريُّ للمقاومةِ في مواجهةِ المحتلِّ

أظهرت حرب «غزة» صمودًا أسطوريًّا للمقاومة الفلسطينية شهد به الجميع، وأكده طول الحرب وعنفها، ويعود هذا الصمود بالأساس إلى العقيدة الإسلامية، التي تأبى على صاحبها الاستسلام، وهي ذات أثر عظيم في صياغة القادة وصناعة الرجال، الذين هم سرُّ حياة الأمم ونهضتها، وتفرض هذه العقيدة على المسلم ألا يتوكل إلا على الله، ولا يركن لسواه، وأن يثبت في الميدان محتملًا الأذى وصنوف العذاب.

 وثمة عنصر آخر ثبّتَ المقاومة وأمدّها بالصبر والصمود، هو عنصر «الحاضنة الشعبية»، أبناء القطاع، الذين آثروا القتل ومآسي النزوح المتكرر على التهجير وترك الوطن العزيز.. كما يعدُّ عنصر الاعتماد على الذات في امتلاك السلاح من دواعي هذا الصمود.. أما التكتيكات العسكرية التي باشرتها المقاومة فكانت نقطة فارقة أربكت المحتل، واستنزفته، وأفقدته ثلث آلياته، غير آلاف القتلى والجرحى من قواته البرية.

وقد أفضى صمود المقاومة بهذه الصورة المبهرة إلى العديد من النتائج الاستراتيجية التي تصبُّ في الأجلين القريب أو البعيد في صالح القضية الفلسطينية.. فقد أعادت المقاومة القضية إلى الواجهة العالمية، وكسرت حالة الجمود التي كانت تعيشها؛ بفرضها على أجندات المنظمات الأممية، وشكّلت رأيًا عامًّا عالميًّا ينادي بحقوق الشعب الفلسطيني ويندد بالمشروع الصهيوني، وأفشلت مخططات ومشاريع دولية لمنح «إسرائيل» مكانة بارزة في المنطقة..

 وعرّت المقاومة هشاشة منظومة الأمن الصهيونية، ونسفت أسطورة «الجيش الذي لا يُقهر»، وكسرت هيبته، وصدّعت الجبهة الداخلية للعدوّ، وأحدثت تغييرات ديمجرافية في بنية سكانه، وفكّكت عددًا كبيرًا من مستوطناته، وشكّلت ضغطًا كبيرًا على اقتصاده.

 أما أهم ما أنجزته المقاومة فهو وقف قطار التطبيع المنطلق وكاد يصل إلى «المملكة السعودية» ودول أخرى في المنطقة، فضلًا عن عرقلة جهود التطبيع مع الدول التي طبّعت بالفعل.. وعلى مستوى الداخل، وحّد صمود المقاومة الصف الفلسطيني، وعطّل مسار الانقسام بعد التحام الفصائل الوطنية في مواجهة العدوان؛ ما أحيا روح المقاومة في القدس والضفة وأراضي عام ثمانية وأربعين؛ باعتبارها خيارًا استراتيجيا للشعب الفلسطيني.

أظهرت الحرب تفوقًا عسكريًّا للمقاومة أجبرت به العدوّ على سحب قواته خارج القطاع أكثر من مرة، وأرهقت جنوده بصورة غير مسبوقة، وأبقت في يدها قرار المعركة، تطلق صواريخها على البلدات المحتلة في الوقت ومن المكان اللذين تقررهما، ونجحت في الثبات على الأرض وتكبيد العدو خسائر كبيرة في الجنود والعتاد، ثم رسم صورة الهزيمة لدى المجتمع الصهيوني بنشر عملياتها العسكرية بالصوت والصورة.

 والحقيقة أن «القسّام» دشّنت قدرات تسليحية ومخزونًا استراتيجيا يكفيها طوال هذه المدة، ويمثل استنزافًا متواصلًا للعدوّ.. ورغم الحصار طوّرت قدراتها العسكرية، وصارت لديها وحدات متخصصة تقوم بمهام محددة ودقيقة، وكأي جيش نظامي صارت تمتلك الصواريخ والمسيّرات ومصانع الأسلحة والمتفجرات.. أما سلاحها الاستراتيجي فهو الأنفاق، الذي أحبط العدو، كمركز قيادة وسيطرة وحماية، وتخزين للذخائر والعتاد، ومرابض لراجمات الصواريخ، ووسيلة لإعداد الكمائن والتمويه.

ولا زالت «حماس» فاعلة سياسيًّا ودبلوماسيًّا، كأدائها العسكري، لديها القدرة على إدارة شئون المعركة بحرفية ومهارة بالغين، اتسعت على أثرها قاعدتها الشعبية، محليًّا وإقليميًّا وعالميًّا، اتضح ذلك من التجاوب غير المسبوق مع القضية الفلسطينية على وسائل التواصل الاجتماعي، وفي التظاهرات التي عمّت أرجاء العواصم الغربية، وهو ما عزّز سرديتها، وفتح لها أبواب الدعم الإعلامي كمشروع نضالي تحرري.

 وأثبت قادة المقاومة وأذرعها السياسية أنها ذات وزن مُعتبر في الصراع، وأن بإمكانها عرقلة أي مخططات لتصفية القضية الفلسطينية، وهذا الوزن صار يتيح لها التعامل مع القوى الكبرى الأخرى غير الولايات المتحدة؛ ما دعَّم مواقفها في المنظمات والمحافل الدولية.. تمكّنت المقاومة -رغم ضراوة وطول أمد الحرب- من الثبات على أهدافها المعلنة بلا تغيير وهي: انسحاب اليهود من القطاع، وعودة النازحين، وإدخال المساعدات، وإعادة الإعمار، وتبادل الأسرى –وصولًا إلى وقف الحرب.

ونجح إعلام «حماس» أو ما يُعرف باسم «الإعلام المقاوم» في كشف خداع العدو وتبديد أكاذيبه، وأثبت أنه أداة نضال اشتبكت أيضًا مع وسائل الإعلام الغربية التي تبنت السردية الإسرائيلية.. يأتي هذا النجاح ضمن تطورات السياق السياسي للحركة وكجزء من مشروعها المتكامل.

عامر شماخ
كاتب صحفي مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *