بحوث ودراسات

د. ياسر عبد التواب يكتب: كيف نرتب الأولويات في الدعوة

من المهم للغاية لمن يهتم بأمر الدعوة أن يتعرف كيف يرتب أولوياته بحيث لا ينشغل بأمر عن ما هو أهم منه وذلك إفادة لنفسه أولا ثم ترتيبا لأمر دعوته إلى الله تعالى.

ولا يعني أننا نرتب الأولويات أن هذه دعوة لإهمال بعض الأعمال التي تقرب العبد لله تعالى فهذا خطأ كبير يغفل عنه بعض من ينتمي إلى العمل العام أو الدعوي فيهمل الطاعات ويحقر من بعضها مقارننا ذلك بما يقوم به من خير.

ولا نحقر نحن بالطبع مما يقوم به هؤلاء الأفاضل لكننا نريد أن نزن الأمور بميزان شرعي يقربنا جميعا من الله تعالى ونقوم بواجب النصح للأمة ودعاتها والقائمين على العمل الشرعي فيها.

فالأعمال التي تقرب إلى الله تعالى قد تكون فرائض وواجبات أو سنن ومستحبات وبديهي عند أي تعارض أن يقدم الأهم على المهم والأركان على المستحبات لكن لا بد لنا من وقفة تدبر نتأمل فيها بعناية تلك القضية.

فالذي يتدبر ما شرعه الله تعالى لعباده من الفرائض والواجبات والسنن والآداب يجد أن القيام بها مجتمعة تكون الشخصية الكاملة الكريمة للمسلم المصلح والتي تميزه عن شخصية غيره ممن يخطف بعض الصفات ويهمل البعض الآخر.. فكل عمل تقوم به في الشرع يساهم في ذلك البناء العظيم للشخصية المسلمة فالمسلم أولا يحرص على الاجتهاد في كل مجال من مجالات العمل الصالح ومنه الدعوي والخيري حيث الكل مطلوب في شرع الله تعالى.

وهذا مع الأسف ما قد يغفل عنه من يقسم الدين لقشور ولباب فيزدري بعض ما لا يعجزه أن يقوم به من الطاعات باعتبارها من القشور والمكملات لا من الأصول بينما الأولى أن يأتي بالجميع؛ كما كان السلف يفعلون فيجتهدون في الطاعات والقربات اجتهادا عظيما يحسب كل من راقبهم أنهم يرون الجميع واجبا عليهم.

انظر مثلا كيف مدحهم الشرع بأنهم يكثرون قيام الليل كما أتبع ذلك بأوامر عن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة في دمج ينبغي تأمله

قال تعالى في سورة المزمل: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}

ومثل هذا أيضا في قوله تعالى {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ۖ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (البقرة: 177)

 فانظر كيف اختلط العمل الشرعي بين الواجبات والمندوبات في الآيات الكريمات فلا يشار إلى الفرائض إلا بإشارات يعرفها العلماء.

ولنتدبر أن القول بأن هناك قشور له عدة مثالب:

أولها ازدراء سنن فعلها النبي r وهذا سوء أدب أن نقول لشيء فعله رسول الله أنه ليس بذي أهمية

ثانيا أنه ليس هناك مقياس يمكن أن نفرز به تلك القشور من اللباب فكلاهما يفضي إلى الآخر وهذا من عظمة التشريع أن يفضي الخير إلى خير آخر

فقد تجد من ينظر إلى الحجاب على أنه قشور والمهم الأخلاق والنية الصالحة وعمل الطاعات والبعد عن المحرمات (الأخرى) كالسرقة والزنا وغير ذلك

ونقول هذا حق يجب أن نولي تلك الأمور اهتمامنا لكن هل ثم تعارض بين هذين؟ ألا ترى أن الحجاب هو ضمن منظومة العفة في المجتمع المسلم حيث يشمل ذلك ستر العورة -وهي من واجبات الصلاة مثلا- وغض البصر والبعد عن الاختلاط المحرم والخنا وغير ذلك.

ألا ترى معي أنه من الصعب جدا ادعاء أن شيئا ما في الشرع هو قشر لا فائدة منه لأنه في الحقيقة يرتبط بغيره من الأعمال والقربات والواجبات.

نعم نقول إن بعض الأولويات أولى من بعض وأن الأعمال متفاضلة حيث تضافرت الأدلة على ذلك.

فالعبادات الخمس هي قواعد هذا الدين التي بني عليها وترك غيرها ليس كتركها ولذلك فالأسلم أن نقول أن الأعمال تأخذ مكانها في سلم الأولويات ولا تهمل أبدا..

 والمشكل أن ينشغل البعض بالسنن عن الواجبات وبالمستحبات عن الفرائض فهذا خطأ في الفهم وعدم إدراك لما رتبه الشرع.

 والآن دعنا نبين أهمية الأولويات وكيف نرتبها حتى لا تضيع بين اهتمامنا ببقية الطاعات:

أول تلك الأولويات

أول تلك الأولويات وأعظمها في الدعوة والعمل هو تعبيد الناس لربهم بأداء حق الله عليهم:

وذلك يشمل إصلاح العقائد والعبادات معا مع ترسيخ عقيدة السمع والطاعة لشرع الله فيما يأمر به أو ينهى عنه وهو يتضمن تعظيم أمر الله وأمر رسوله وتعلم العلم الواجب الذي تصلح به عقيدة المسلم وعبادته ومما ينبغي إدراكه من ذلك التعبد لله ببر الوالدين وصلة الأرحام الأقرب فالأقرب وأداء حقوق الآخرين ومن هذا التعبد الابتعاد عما حرمه الله تعالى.

ولقد جاءت الآيات تتحدث عن الأنبياء وأن أول ما ذكروه لأقوامهم كان العبودية لله بقولهم (اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) ثم ثنوا بمشكلات وأخطاء شرعية وقع فيها الناس.

قال تعالى: (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ) (هود:84)

 وقال سبحانه: (وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ، إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) (لأعراف80 :81)

فلن تنجح الدعوة أبدا إلا إذا صلحت العقيدة للداعي أولا ومن ثم لغيره من المدعوين فصحة العقيدة ضرورة حيث لا يقبل الله تعالى العمل الذي فيه شيء من الشرك فهو سبحانه غني عن ذلك؛ ولا تفلح الدعوة أيضا إن كان المدعو مقصرا في العبادة.. قل لي بالله أيصلح أن نعد المدعو ملتزما بالدعوة لمجرد تعاطفه وإظهار بعض استجابته وهو مثلا لا يزكي أمواله فضلا عن أن يكون مقصرا في صلاته أو تاركا للحج تهاونا مع استطاعته؟

هل تصلح الدعوة إن تغاضينا عن طواف بعض المدعوين بالقبور وإنزال الحوائج بساكنيها؟ هل تثمر الدعوة في قوم رضوا بالتحاكم لغير الشرع وتسربت العلمانية إلى نفوسهم؟

وثاني تلك الأولويات

تحسين أخلاق الناس ودعوتهم إلى كريم الصفات وطيب الأخلاق وحسن المعاملات فإنما بعث رسول الله ليتمم مكارم الأخلاق وهذا يتضمن التخلص من سيء الأخلاق من جهة ويتضمن التعاون على البر والتقوى بمعناه الواسع من جهة أخرى.

وثالث الأولويات

أن نرشد أنفسنا والمدعوين إلى فضائل الأعمال وإلى فعل السنن والاجتهاد فيها.

فبهذه المعالم الثلاث للأولويات تنير طريق الداعي وترشده إلى ما ينبغي أن يركز عليه وفقا للظروف التي يمر بها.

والحق أن الدعوة إلى الله تعالى هي دعوة للدين كله فلا نفهم من ترتيب الأولويات أننا لا ندعو إلا إليها وحدها بل فقط نرتب الأهم قبل المهم وفي كل خير فلنبدأ إذن بتلك الأولويات فنصححها لأنفسنا وللناس قبل أن نتدرج بهم إلى غيرها من فضائل الأعمال.

ونذكر هنا حديث رسول الله الذي رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن إنك ستأتي قوما أهل كتاب فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينه وبين الله حجاب) (رواه البخاري برقم: 1425) فبدأ بالتوحيد وثنى بالعبادات وبين أنواعها ثم حذر من الظلم ويقاس عليه سائر المعاصي والأخلاق السيئة وهذا الحديث وإن كان في دعوة غير المسلمين فإنه يرشد إلى ما ينبغي للمسلمين الالتزام به من باب أولى فليس معقولا أن يرشد الرسول الصحابي إلى أولويات الدعوة ثم يقول البعض هذه خاصة بأهل الكتاب… وإلا لصار كل ما يذم من أهل الكتاب يمكننا أن ننتهكه لأننا لسنا هم هذا لا يقول به عاقل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى