أي مثل هذا اليوم منذ سبعة وخمسين عاماً، تاريخ ربما لا تعرف عنه الأجيال المعاصرة شيئاً، ولكنه يومٌ فرِح فيه أبناء جيلنا، واعتبروه بداية استعادة الثقة في النفس بعد أربعة أشهر من الهزيمة المروعة التي منينا بها في الخامس من يونيو.. ففي هذا اليوم استطاعت البحرية المصرية أن تدمر واحدة من أقوى القطع الحربية الإسرائيلية، وهي المدمرة إيلات، وذلك بواسطة صاروخين بحريين انطلقا من «لنشين» تابعين للقوات البحرية، فتحولت في دقائق معدودات إلى حطام استقر في قاع البحر المتوسط، قبالة سواحل بورسعيد، وكان على سطحها أكثر من 250 ضابطاً وجندياً، أصبح أكثرهم طعاماً للحيتان بحسب تعبير أمين هويدى وزير الحربية وقتئذ في كتابه (الفرص الضائعة).
كنتُ في ذلك الوقت في الصف الأول الإعدادي، ولا زلت أذكر كم شعرنا بالفخر ونحن نتابع أخبار ذلك الحدث المهم. وحتى بعد ما كبرنا وعلمنا ما وقع من صدام ٍ بين نظام عبد الناصر والإسلاميين، وما حل بدعاة الإسلام في تلك الفترة، فإنَّ ذلك لم يغير قناعتنا حول أن العدو الأول لأمتنا هم أولئك الذين احتلوا أرضنا وقتلوا أهلنا وشردوهم، ولا يزالون يفعلون.
أحببت أن أذكِّر بهذا التاريخ؛ لأن هناك اتهاماً يُوجه لأبناء التيار الإسلامي من قِبل العلمانيين ومن يدَّعُون الوطنية، مفاده أن الإسلاميين لا يحبون وطنهم، بل ربما اتُهموا بان لهم أجندات تخالف مصالح أوطانهم. وهو اتهام ظالم، على الأقل بالنسبة للجمهور الأعظم من أبناء الحركة الإسلامية، الذين يدل تاريخهم على أنهم مهما اختلفوا مع حكوماتهم وأنظمة بلادهم ، فإنهم دوماً مع مصلحة بلادهم ، ويوم أن يتعرض بلدهم لخطر فإنهم من أول من يدافع عنه .
ولقد تحدثت في هذا المعنى مراراً، وضربت لذلك أمثلةً حيةً: منها موقف الشيخ حافظ سلامة رحمه الله بعد نكسة 1967م، وهو الذي كان في أثناء الحرب رهن الاعتقال بتهمة تحفيظ القرآن الكريم، ومع ذلك فإنه لما سمع وهو في السجن بأنباء العدوان طلب من قائد المعتقل أن يُسمح له بالخروج هو ومجموعة من زملائه المعتقلين للمشاركة في الدفاع عن البلاد، مع تعهدهم بالرجوع إلى السجن فور انتهاء المعركة.
وبالطبع فقد رُفض ذلك الطلب رسمياً. ولما أفرج عنه في عام 1968، بعد حوالي عامين من الاعتقال، توجه مباشرة إلى بلده السويس، وطلب من المسؤولين فيها السماح له بمزاولة نشاطه الدعوي، والمشاركةً في العمل لإزالة آثار العدوان. وبدأ الشيخ جهاده في الناحية الدعوية، بتنظيم قوافل العلماء والدعاة لعقد الندوات الدينية لتوعية الضباط والجنود. وواكبَ ذلك مرحلة حرب الاستنزاف. فكانت قوافل العلماء لا تنقطع عن الذهاب لجبهة القتال تعليماً للجنود وتحفيزاً لهم على الجهاد والاستشهاد. كما كان مسجد الشهداء بمدينة السويس هو المكان الذي انطلقت منه عشرات بل مئات العمليات الفدائية التي كان يخوضها جنود مصر وضباطها في تلك الفترة.
وكان الشيخ حافظ كثيراً ما يجلس مع أولئك الجنود قبل انطلاقهم لتلك العمليات يذكرهم بفضل الجهاد والاستشهاد في سبيل الله.
ثم كان للشيخ وتلاميذه دور بارز في أثناء حرب العاشر من رمضان 1393هـ- السادس من أكتوبر 1973م، ثم كان دوره الأبرز هو قيادة المقاومة الشعبية في التصدي لقوات العدو في محاولتها احتلال السويس؛ حيث أصر ومعه مجموعة من أبناء القوات المسلحة على الدفاع عن المدينة مهما كلفهم ذلك من ثمن، وذلك في الوقت الذي كان فيه محافظ المدينة يهم بتسليم المدينة.
وبعد: فأنا من جيل نشأ على كراهية المشروع الصهيوني، واعتباره أكبر أعداء الأمة، حتى إنني أذكر أننا كنا ونحن صغار في مسابقة ثقافية، فكان من ضمن الأسئلة سؤال يقول: ما السؤال الذي لا يمكن أن تجيب عنه بكلمة نعم أبداً؟ وقد كانت الإجابة الصحيحة هي: هل أنت نائم؟ ولكنا لم نكن نعرف ذلك، فاجتهد أحدنا وقال: هل تحب إسرائيل؟ وهي إجابة تدل على مدى ما كان في قلوبنا من كره لأولئك المعتدين وعداوة لهم. وحتى لما وقع الرئيس السادات معاهدة السلام وكان يدعو لإزالة الحاجز النفسي بيننا وبينهم اليهود، فإن تلك الدعوة لم تلق آذانا صاغية من أبناء شعبنا المسلم، وما ذلك لأن عداوة أولئك القوم مركوزة في فطرنا، وهي التي أفصح عنها قرآننا أيما إفصاح كما في قوله تعالى: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا…). [المائدة: 82].
وفي ضوء هذا الذي قلناه ينبغي أن يُفهم ما ذكرناه سابقا من مشروعية التعاون مع أهل البدع في قتالنا ضد اليهود، وتمني انتصار المقاومة اللبنانية على الصهاينة والفرح بما يحدثون من نكاية فيهم، هذا الموقف الذين أغضب منا البعض حتى اتهمونا بموالاة الرافضة وتمييع قضية الولاء والبراء.. ووالله ما كان شيء من ذلك، وإنما نحن ننطلق في موقفنا هذا من منطلق قياس المصالح والمفاسد، الذي يقتضي أن كل تعاون فيه مصلحة الجهاد والمجاهدين، ولا يترتب عليه تنازل عن ثوابت عقيدتنا، جائز ولا حرمة فيه. ورائدنا في ذلك كله قول المصطفى صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية عن مشركي قريش: (والذي نَفْسِي بيَدِهِ، لا يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إلَّا أعْطَيْتُهُمْ إيَّاهَا،). أخرجه البخاري (2731) من حديث المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم].
وإني والله لا أرى مشروعاً أخطر على الأمة الإسلامية في هذه العصور من المشروع الصهيو/أمريكي، الذي يريد أن يجتث عقيدة الأمة من جذورها، ويسلب الأمة المسلمة أرضها وعزتها وكرامتها. ففي سبيل دفعه نقبل التعاون مع كل من يمد لنا يد العون ولو كان كافراً. حتى لو جاء الروس وقالوا سوف نساعدكم لقبلنا منهم ذلك، رغم أنهم أعداؤنا الذين قاتلناهم أيام الجهاد الأفغاني، والذين قَتلوا أهلنا وأحبتنا في سوريا.. هذه قناعتي وتلك رؤيتي التي أداني إليها اجتهادي ومعرفتي بالواقع، ومن شاء أن يخالفني فيها فليخالف، شريطةَ أن يكون ذلك بأدب الإسلام، لا بالتسفيه والتحقير وإساءة الأدب. هدانا الله وإياكم سواء السبيل.
ملاحظة:
التاريخ المذكور أعلاه ليس خطأ؛ فقد كتبت هذه السطور قبل يومين، بعد مشاهدتي لرواياتِ مَن نفذوا عملية الإغراق، عبر برنامج وثائقي على قناة «ماسبيرو زمان»، ولكن تأخرت في نشرها للانشغال ببعض تداعيات اغتيال الشهيد..