د. حاكم المطيري يكتب: معركة غزة.. و ﴿سبيل الله والمستضعفين﴾
كل ما يُبذل من جهد في سبيل نصرة غزة وأهلها، وإغاثتها، ووقف العدوان الصهيوني عليها، سواء بالقتال، أو بالمال، أو بالكلمة، فهو في سبيل الله، كما قال تعالى: ﴿وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين﴾، قال الزهري يعني :(وسبيل المستضعفين)، فهو أيضا من سبيل الله وشرعه الذي شرعه وارتضاه، سواء كان العطف في (والمستضعفين) من باب عطف الخاص على العام للاهتمام والعناية به، وكأن المستضعفين والدفاع عنهم وإغاثتهم هو أولى سبيل لله عز وجل، وأول إعلاء لكلمته ودينه.
أو كان العطف بالواو يقتضي المغايرة، وأن سبيل المستضعفين وسبيل الله حكمهما واحد، وكلاهما يجب القتال من أجله، لإعلاء كلمة الله، وإغاثة عباده المستضعفين.
فكل قتال مشروع في الإسلام -واجبا كان أو جائزا في حد ذاته- فهو من سبيل الله، وكل من قتل فيه وبسببه فهو شهيد في سبيل الله، كما قال ﷺ: (من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون أرضه فهو شهيد)، ولفظ: (مَن) من صيغ العموم، فتشمل كل مسلم اتصف بهذا الوصف وقتل بسببه، ولم يوجد مانع شرعي يمنع من وصفه بالشهادة، كمن غل في الغزو فقتل، كما في حديث صاحب الشملة -في الصحيحين- الذي خرج مع النبي ﷺ إلى خيبر فأصابه سهم فقتله (فقال الناس: هنيئا له الشهادة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل، والذي نفسي بيده، إن الشملة التي أصابها يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم، لتشتعل عليه نارا). وكذا من جُرح في الغزو فأجهز على نفسه جزعا، كما في الصحيحين في قصة الرجل الأنصاري الذي قاتل المشركين قتالا شديدا، فقال الصحابة ما أجزأ اليوم أحد ما أجزأ فلان، فقال النبي ﷺ هو في النار، فارتاب الصحابة لهذا القول، فما لبث الرجل أن أصيب فلم يصبر فقتل نفسه، فقال ﷺ: (إن الله لينصر هذا الدين بالرجل الفاجر وأقوام لا خلاق لهم)، وكذا مثله من أحاطت به خطيئته بردة، وكفر، أو نفاق أكبر، كمن ظاهر العدو الكافر وأعانه على قتال المسلمين، فاحتل بلدانهم، أو استحل ما حرم الله من دماء المسلمين المعصومة -كما جرى في أفغانستان والعراق والشام- ولم يظهر توبة حتى قتل، فقد توعد الله بالخلود في النار الكافر المشرك، والمنافق نفاقا أكبر، ومن قتل مؤمنا متعمدا ظلما وعدوانا، ولم يُقتص منه، ولم يتب، ولم يعف ولي المقتول، حتى قال ابن عباس ليس له توبة، لقوله تعالى: ﴿ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما﴾ [النساء: ٩٣].
ولهذا لا يشرع للإمام، ولا لأهل الفضل: أن يصلوا على المنافق، ولا على قاتل نفسه، ولا على الغال، ولا على من قتل مؤمنا ظلما وعدوانا، فضلا عن وصفهم بالشهادة وتزكيتهم والثناء عليهم.
وكل قتال محرم فليس من سبيل الله، فسبيل الله عام يشمل كل ما بذل من جهد وعمل صالح لنصرة دينه، ونصرة المستضعفين من عباده، ونصرة الحق، وإقامة العدل، ومنع الظلم، ولا يحصر سبيل الله فقط في القتال لتحكيم شرعه بدعوى أنه المقصود حصرا بقوله ﷺ (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا)، كما في الصحيحين : جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: (الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذكر، والرجل يقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ قال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)، فهذا جواب عن سؤال محدد لصور من القتال غير مشروعة في حد ذاتها، كمن يقاتل فقط لقصد الغنائم، أو يقاتل ليعرف بالشجاعة، أو يقاتل رياء، أو حمية، فأجاب النبي ﷺ عنها كلها بجواب جامع وأنها كلها ليست من سبيل الله، وإنما سبيل الله ما كان القتال فيه لإعلاء كلمته، ومن ذلك ما أوجبه وشرعه لعباده من القتال دفاعا عن دمائهم، وأموالهم، وأرضهم، وحقهم، وقتالهم نصرة للمستضعفين المظلومين، فكل ذلك من سبيل الله وإعلاء كلمته..
قال ابن دقيق العيد في شرح الأحكام: (إن المقصود بالكلام وسياقه بيان أن هذه المقاصد منافية للقتال في سبيل الله، فإن السؤال إنما وقع عن القتال لهذه المقاصد، وطلب بيان أنها في سبيل الله أم لا؟ فخرج الجواب عن قصد السؤال، بعد بيان منافاة هذه المقاصد للجهاد في سبيل الله: هو بيان أن هذا القتال لإعلاء كلمة الله تعالى هو قتال في سبيل الله، لا على أن “سبيل الله ” للحصر ، وأن لا يكون غيره في سبيل الله مما لا ينافي الإخلاص، كالقتال لطلب الثواب..).
ولا مانع من إطلاق وصف الشهادة لمن ثبتت له أسبابها الشرعية، ولا يحتج بتبويب البخاري باب (لا يقول فلان شهيد) أي قبل ثبوت سببه، لأنه أخرج حديث الرجل الذي قتل نفسه، بعد ثناء الصحابة عليه، فلا يشهد لمثله، ولا يطلق عليه لفظ الشهيد، قبل أن يثبت له سبب الشهادة الشرعي، وهو ما لم يتحقق لهذا الرجل.
وقال ابن حجر الممنوع إطلاق وصف الشهادة على سبيل الجزم بالباطن، أما على سبيل الرجاء وحكم الظاهر فجائز.