بحوث ودراسات

د. تيسير التميمي يكتب: معركة حطين

     وقعت أحداث معركة حطين في 25 ربيع الآخر 583 هـ الموافق 4-7-1187 م قرب طبرية على أرض فلسطين المقدسة، وكانت بين جيش المسلمين بقيادة سلطان مصر والشام الناصر صلاح الدين الأيوبي رحمه الله وبين جيش الإمارات الصليبية التي كانت تحكم الساحل الشامي بقيادة ملك القدس جاي لوزنجيان انتصر فيها المسلمون نصراً ساحقاً

     لم تحدث هذه المعركة من فراغ ولا بشكل مفاجئ أو غير متوقع، فمجموعة من الظروف أدت إلى نشوبها، ففي البداية اشتد المرض على ملك بيت المقدس الصليبي الشاب بلدوين الرابع في سنة 1185م وما لبث أن توفي بعد أن سمّى ابن شقيقته بلدوين الخامس خلفًا له، لكن هذا الملك الطفل ما لبث أن توفي خلال سنة فتولّت العرش والدته سيبيلا، وهي بدورها توّجت زوجها الثاني جاي لوزينجيان ملكاً للقدس لتحمي العرش بعد موت ابنها،

     كان تولّى جاي عرش بيت المقدس سبباً في ظهور بعض الانشقاقات الواسعة بين صفوف الصليبيين، فلم يرض عدد من الأمراء الفرنجة عن توليه العرش بل أسخطهم ذلك عليه، ومنهم ريموند الثالث أمير طرابلس الذي كان يسعى لتولي عرش بيت المقدس اعتقاداً منه بأحقّيّته به، لكنه لقي معارضة من فرسان الداوية، وقد أوشك الصدام المسلح أن يحتدم بين الملك جاي وريموند هذا؛ حيث عسكر ريموند في طبرية في جيش عظيم، وفي المقابل قام ملك بيت المقدس الجديد هو الآخر بحشد جيشٍ عظيمٍ لمهاجمة طبرية لولا تدخل بعض الأمراء لتهدئة الموقف ومطالبة الطرفين بالاتحاد لمواجهة صلاح الدين، فاضطرَّ الملك لوزنجيان أن يسير بنفسه إلى ريموند لاسترضائه ومصالحته.

     ومع ذلك فقد قام ريموند أمير طرابلس بسبب غيظه من فوات عرش القدس منه ونكاية بالملك المتوج وبفرسان الداوية، قام بمراسلة صلاح الدين خفية للتحالف معه وعرض عليه تسليمه طبريا، فوافق صلاح الدين لأنه بذلك يضم إليه حليفاً من الصَّليبيين مكوِّناً ثغرةً كبيرةً في صفوفهم،

     أثار تحالف صلاح الدين مع ريموند الثالث غضب أرناط أمير الكرك الذي كان في هدنةٍ مع صلاح الدِّين، وقد اشتهر بالكراهية الشديدة للمسلمين، وبفضل تلك الهدنة تتردد القوافل التجارية بين مصر والشام بأمان، وهذا يعود بالفائدة على أرناط نظراً للضرائب التي كان يفرضها عليها، ولكنه نقض الهدنة أواخر عام 1186 م فهاجم قافلةً تجارية للمسلمين واستولى عليها وقتل حرَّاسها وأسر بعض الجند وقبض على التجَّار والعائلات وحملهم إلى حصن الكرك.

     أرسل صلاح الدين إلى رينولد يهدَّده إن لم يُطلق سراح الأسرى ويعيد الأموال فرفض استقبال رسله، فأرسل إلى الملك جاي لوزنجيان لكنه لم يفعل شيئاً لأن أرناط حليفه، فقرر صلاح  الدين محاربة مملكة القدس الصليبية لكن عندما يحين الوقت المناسب الذي سيحدده هو.

     عمل صلاح الدين على تحييد حليف آخر له وهو بوهيموند الثالث أمير أنطاكيا، فأرسل إلى أهل حلب يأمرهم بمصالحته، فكانت هدنةً منفصلةً تؤمّن خطوطه الخلفية حتى يتفرَّغ لجهاد جبهة واحدة في الجنوب، وقام أمير طرابلس بتوسيع مدى اتفاقيته مضيفاً إليها حماية منطقة الجليل، وبذلك فتح الطريق لصلاح الدين للدخول بين الأردن وفلسطين، انشق الصف الصليبي ففقدت مملكة القدس مساعدة ومؤازرة أقوى إمارتين صليبيتين لها وهما طرابلس وأنطاكيا،

     وعمل صلاح الدين في الوقت ذاته على توحيد الصفِّ الإسلامي وتكوين جبهة قوية لمواجهة الكيان الصليبي الغاصب مستجيباً لأمر الله سبحانه وتعالى { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّـهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا… } آل عمران 102، ثم أعلن في مصر فتح باب التطوع لمحاربة الصليبيين، وأرسل للموصل والجزيرة والشام يطلب منهم دعم جيشه، وخرج بعساكره الخاصة وغيرهم من القاهرة وعسكر في دمشق، وكانت تضم حوالى 12000 فارس و 13000 من المشاة ورجال الاحتياط، هذا بالإضافة إلى أعداد كبيرة من المتطوعين، أعدَّ السلطان الناصر هذه الجيوش معنوياً وعسكرياً استعداداً للمعركة الفاصلة ضد الكيان الغاصب مستجيباً لقوله سبحانه { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ… } الأنفال 60

     وعندما اكتملت استعداداته وتجهيزاته، خرج صلاح الدين من دمشق في شهر محرم على رأس جيشه متجهاً نحو الكرك للتمويه على هدفه الحقيقي من هذا المسير وهو مهاجمة مملكة بيت المقدس، وأيضاً لإخافة أرناط ومن معه من الذهاب إلى بيت المقدس، فلما علم أرناط بوجود صلاح الدين وجيشه في المنطقة تراجع إلى حصنه،

     ظل صلاح الدين في الأردن شهرَيْ صفر وربيع الأول، وأرسل قَّوة استطلاعية انتخب أفرادها وانتقاهم للإغارة على ممتلكات العدوِّ بهدف إضعاف معسكراته وكشف مخطَّطاته، فسارت هـذه السرية المدجَّجة بالسِّلاح والعتاد باتجاه صفورية التي كانت حصناً قوياً للصليبيين، وحرص قادتها على أن يكون مسيرها في أواخر الليل وأن يكون هجومهم عليها في الصَّباح الباكر، وبالفعل نُفِّذت الخطة بدقَّة تامَّة وصبَّحت السرية صفورية بالهجوم، فكانت معركة ضارية قتل فيها كثيرون وبضمنهم مقدم فرسان الاسبتاريا وعدد كبير من أبرز فرسانهم، ونجا مقدَّم فرسان الداوية بصعوبة بالغة، وعندما تجرَّأت قوةٌ صليبيةٌ أخرى على الإسراع إلى صفورية لنجدة إخوانهم كانت المعركة قد انتهت، فوقعت النجدة في الأسر عن آخرها، وعادت سريّة صلاح الدين من المعركة سالمة، وكان النصر فيها تمهيداً لنصر حطين.

     لمّا علم لوزنجيان بما حصل في صفورية جمع قوة من الممالك الصليبية الثلاثة زادت عن 50 ألفاً واتجه إلى صفورية وعسكر فيها ومعه الصليب الصلبوت الذي يزعمون أنَّ فيه خشبة من الصليب الأصلي. وكان صلاح الدين يرسل مناوشات لصفورية يريد استدراج الصليبيين لقتالهم خارج حصونهم، فلمّا تأكد أنَّهم لن يخرجوا انطلق إلى طبرية فسيطر عليها وحاصر حصنها، فجنَّ جنون الصليبيين وخرجوا من صفورية على الرغم من تحذيرات بعضهم بعدم الخروج، وانضم إليهم ريموند أمير طرابلس ليتستر على فعله بمحالفة صلاح الدين.

     كان حر الصيف شديداً وقد دمرت سرايا المسلمين كل ما يمكن أن يشرب منه الجيش على طول طريق حطين، فلما وصلوها وجدوا جيش المسلمين قد سبقهم إليها، لأن تجهيزاتهم الحربية الثقيلة سبب تأخرهم، ولما وصلوا الموقع كانوا هالكين عطشاً ولم يتمكنوا من وصول الماء في عين طبريا، فعسكروا في التلال وظلوا على حالهم إلى الغد وهو يوم السبت، وكان بعض المسلمين قد ألقى في تلك الأرض ناراً وكان الحشيش كثيراً ويابساً فاحترق، وكانت الريح في وجه الفرنج حملت إليهم دخانها، فاجتمع عليهم العطش وحر الزمان وحر النار والدخان وحر القتال.

     وأما المسلمون فباتوا ليلتهم يحرض بعضهم بعضاً على الجهاد في سبيل الله والثبات في ميدان القتال مستذكرين قول الله عز وجل { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } الأنفال 45، وقد وجدوا ريح النصر والظفر، وكانوا كلما رأوا حال الفرنج على خلاف عادتهم مما أصابهم من الخذلان زادت حماستهم وحميّتهم فأكثروا التكبير والتهليل طوال الليل.

     وفي يوم السبت أفاق الصليبيون على المسلمين وهم يحيطون بالتلال، فتقدم شاب مسلم يقاتلهم فتجمعوا عليه وقتلوه فبدأت المعركة، واندفع الصليبيون بكل اتجاه لكسر الطوق والوصول إلى الماء والمسلمون يردونهم مرة تلو مرة، فاشتد القتال بين الجيشين، وأطلق رماة المسلمين السهام على الصليبيين فقتلوا كثيراً من خيولهم، وفي وسط المعركة وبأمر من الملك توجه ريموند أمير طرابلس مع فرسانه وركّزوا هجومهم على جهة واحدة، ففتح المسلمون لهم ثغرة فروا من خلالها، انهارت معنويات الصليبيين بعد فرار ريموند، ولم يبق من جيشهم إلاَّ قلة مع الملك قاتلوا أشدَّ القتال وتوالت هجماتهم على المسلمين، لكن في كل هجمة كان يُقتل كثير منهم، فكرَّ عليهم المسلمون وسلبوا منهم الصلبوت صليبهم الأعظم، فكان أخذه عندهم من أعظم المصائب عليهم، وأيقنوا بعده بالقتل والهلاك.

     ارتفع من بقي من الفرنج إلى تل بناحية حطين وأرادوا أن ينصبوا خيامهم ليحموا أنفسهم بها، فاشتد القتال عليهم ومنعهم المسلمون عما أرادوا، ولم يتمكنوا من نصب خيمة إلا خيمة ملكهم. فلما صار ملكهم على التل في تلك الجماعة حملوا حملة منكرة على من بإزائهم من المسلمين حتى ألحقوهم بالسلطان فتقدم وهو يصيح: كذب الشيطان، فعاد المسلمون على الفرنج فرجعوا إلى التل والمسلمون يتبعونهم، ثم حملوا على المسلمين حملة ثانية فعاد عليهم المسلمون فأرجعوهم إلى التل، وفي حملتهم الثالثة على المسلمين عادوا عليهم فأرجعوهم إلى التل وتبعوهم، فإذا بخيمة الملك قد سقطت، أسقطها المسلمون وأسروا كل من فيها: الملك وأخاه والأمير أرناط وصاحب جبيل وابن همفري ومقدم الداوية وعدد كبير من فرسانه، وجماعة كبيرة من فرسان الاسبتارية،

     فلما رأى صلاح الدين سقوط خيمة الملك أدرك أن نصر الله قد أتاهم، فنزل وسجد شكراً لله تعالى، وبكى من فرحه بالنصر في معركة صعبة دامت نحو 7 ساعات، عظم فيها القتل والأسر في الصليبيين حتى إنَّ من رأى الأسرى قال ليس هناك قتيل، ومن رأى القتلى قال ليس هناك أسير،

     بعد هذا النصر جلس صلاح الدين في خيمته، وأمر بإحضار الملك جاي وأخاه وأرناط، فقدّم للملك شراباً مثلجاً فشربه ثم ناول فضلها لأرناط، فقال صلاح الدين [ إنما ناولتُك ولم آذن لك أن تسقيه، هذا لا عهد له عندي ] ثم قدم الطعام للملك فلما انتهى أحضر أرناط ققال [ أنا أنوب عن رسول الله في الانتصار لأمته ] ودعاه إلى الإسلام فرفض وقال ما يتضمن الاستخفاف بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم فقتله صلاح الدين، ورآه الملك يتخبط في دمائه فشحب لونه، فقال له صلاح الدين [… لا تخف فلن تموت اليوم بل تحيا، ولو بقي في قومك بقية كنت أملّكك عليهم… إن سبب ما فعلته به أن الكرك كانت طريق التجار والمسافرين فكان يعتدى على القوافل بظلم وعنف… وحلف لرسولي أنه لن يؤذي المسلمين وسيترك التجار بلا ضرر ويمهد لهم الطريق ولن يعتدي أي واحد من أصحابه عليهم، وبعد الصلح بثلاثة أيام عبرت قافلة قاصدة دمشق فساقها بجمالها ورجالها وأموالها وذهب بها إلى الكرك فأسر رجالها وأخذ الأموال فلما عرفتُ بأمر نقضه العهد كتمتُ الغيظ ونذرتُ لله أنني متى ظفرتُ به أذبحه واقطع رقبته، فلا تلمني… ]

     أقام صلاح الدين في موضعه باقي يومه، وأمر بالملك وجماعة من أعيان الأسرى فأرسلهم إلى دمشق، وأمر بمن أسر من فرسان الداوية وفرسان الاسبتارية أن يجمعوا ليقتلوا لأنهم أشد شوكة من جميع الفرنج، فأراح الناس من شرورهم، وأما ريموند الثالث أمير طرابلس فلما نجا من المعركة وصل إلى طرابلس، ولم يلبث إلا أياما قلائل حتى مات غيظاً وحنقاً مما جرى على الفرنج خاصة، وعلى دين النصرانية عامة.

     كانت معركة حطين معركة فاصلة حاسمة أفقدت مملكة بيت المقدس قوَّاتها العسكرية الرئيسية، وتم فيها تدمير أكبر جيش صليبي أمكن جمعه منذ بداية الاحتلال الصليبي، مما مهَّد السبيل لتحرير المدينة المقدسة والمسجد الأقصى المبارك من الاحتلال الصليبي بعد أقل من مائة يوم، بل إنها شكلت بداية النهاية للوجود الصليبي في بلاد الشام،

د. تيسير التميمي

قاضي قضاة فلسطين رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً أمين سر الهيئة الإسلامية العليا بالقدس

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى