يقول الله تعالى:
{قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ ۖ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا ۚ قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ ۗ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
النمل/ 44.
ما الذي جعل ملكة سبأ تُعلن إسلامها بعد دخول الصّرح؟
ما الذي حدث معها في الصّرح؟
ماذا رأت معها في الصّرح؟
ما هو الصّرح؟
الصَّرح من الفعل (صَرَح) وهو بمعنى: (الكشف والإبانة والظهور)
نقول:
صَرَح الشيء إذا صفا وخلُص، وبَدَا، وظهر، وبان، ولا بد أن يكون من وظائف الصّرح الإبانة والكشف والإظهار.
وليس صحيحًا ما يقوله البعض بأنّ الصّرح معناه القَصر، فقد كانت ملكة سبأ موجودة أصلًا في قصر سليمان عليه السلام عندما أراها عرشها قبل أن يصحبها إلى الصّرح، فالقصر شيء والصّرح شيء آخر، ولا يصِحُّ أن نقول:
إنهما شيء واحد، ومعنى واحد.
وقد استعمل القرآن الكريم كلمة (قَصر) عندما كان السياق يلزمه استعمالها، كما في قوله تعالى:
{وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ} الحج/45، فلا يمكن أن تحُل مفردةٌ مكان مفردةٍ في القرآن الكريم.
وسليمان عليه السلام نبيٌّ كريم صاحبُ هدفٍ ورسالة، وليس المُراد من جولته مع ملكة سبأ، أن يعرض عليها ما يَملك، أو أن يُثبت لها أنه مَلِك قويّ، ولكنه يدعو إلى الله تعالى في كل خطواته وتحركاته، ولذا فقد اصطحبها عليه السلام إلى الصَّرح، ليُريَها فيه ما يجعلها تؤمن بالله تعالى عن قناعة وعلم، فيكون إيمانها سببًا في إيمان كل قومها.
وواضح أنَّ الصّرح الذي أراد سليمان عليه السلام لملكة سبأ أن تدخله كان مصنوعًا من الزجاج المصقول والمُمَرَّد، لدرجة أنها لم تعرف أنه زجاج، وظنّت أنها أمام لُجّة من الماء المتحرك، فكشفت عن ساقيها لتتمكن من الدخول، لكنّ سليمان عليه السلام سرعان ما انتبه إلى حَيرة المرأة فقال:
إنّه صَرح مُمَرَّد من قوارير (زجاج)، ودخلت الصّرح بسلام.
ويبدو لي أنّ دخول ملكة سبأ الصَّرح كان ليلًا، وذلك لما يلي:
1- يقول الله تعالى:
{فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا} النمل/ 44، فإنّ الذي جعلها تحسَب الصّرح لُجّة أنّها رأت نجومًا تلمع وتتحرك، وهو نفس ما تراه على وجه الماء ليلًا إذا كانت السماء صافية.
2- لو كان دخول ملكة سبأ للصَّرح نهارًا لكان في إمكانها معرفة إن كان الذي رأته زجاجًا، أم لُجّة ماء، ففي النهار لن ترى لمعان النجوم وتحركها، وسيكون بإمكانها معرفة الزجاج وتمييزه.
3- إنّ من عوامل نجاح زيارة ملكة سبأ للصَّرح أن تكون هذه الزيارة ليلًا، حيث سترى أمورًا خطَّط لها سليمان عليه السلام، من شأنها أن تكون سببًا في إيمانها وإسلامها كما سنرى.
وعندما دخلت ملكة سبأ الصَّرح رأت أشياء جعلتها تُعلن إسلامها بقوة وعن قناعة راسخة، وتُعلن أنها كانت تظلم نفسها بكفرها:
{قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} النمل/ 44.
وفي كلامها نجد ثقافة جديدة ملأت عقلها وقلبها فقد صارت تستعمل كلماتٍ تدلّ على الإيمان والتوحيد، مثل:
كلمة (رَبِّ) التي تدلّ على الدعاء والتوجّه لله تعالى الذي آمنت به قبل قليل، و(إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي) التي توحي بالتوبة والاعتراف بالذنب، و(وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) وفيها إعلان للاستسلام لله تعالى، الذي هو رب العالمين كما تبيّن لها بدخولها الصَّرح.