بحوث ودراسات

محمد نعمان الدين الندوي يكتب: مقال صادم.. يدعو إلى التمرد على الماضي

من وحي الأيام:

قرأت -أخيرًا- في مجلة موقرة حبيبة إلينا وعزيزة علينا، مقالًا لأحد الكتاب العرب المحترمين، صدمني صدمة تجل عن الوصف، لما احتواه -المقال- من آراء وأفكار غريبة عجيبة، تنم عن تأثر واضح -بل انبهار بغيض- بالرواسب الفكرية وشوائب «الثقافة العليلة» وأكدارها وعلائقها، إضافة إلى خلل عميق في التربية وضعف أساسي في الانتماء، وشعور بما يسمى: «مركب النقص».

وأكيد أن هذا المقال يكون قد صدم كل من قرأه، وجرح شعور من يعتز بتاريخه وعظماء أمته وروائع ماضيه، لأنه -المقال- يدعو إلى التمرد على الماضي، وتهميش دور الأبطال المغاوير، ويسيء إلى الرموز والصناديد المشاهير من التاريخ الإسلامي.

إن صدمتي بقراءة المقال المحشو بالبذاءة والتبجح والمكابرة ليست بأقل من صدمتي بسماح الإخوة المسؤولين عن المجلة الشقيقة بنشر هذا المقال الساقط -المرفوض محتواه عقلًا ومصلحة، وغيرة وإباء، بل دينًا وعقيدة أيضًا- فيها.

 صحيح أن الأفكار المنشورة في الصحف والجرائد لا تعبر بالضرورة عن رأيها، وحريةُ الرأي وإتاحة الفرصة لطرح الأفكار -دونما خوف وتحفظ- حق أساسي يجب أن يظل محفوظًا مسموحًا باستخدامه للكتاب وحملة القلم، لا ينبغي المساس به أو انتهاك حرمته أو تضييق دائرته، فضلًا عن الحجر عليه ومصادرته، ولكن ليس معنى ذلك أن لا ينظر -أصلًا- في الأفكار والآراء المطروحة في المقالات، مهما انحطت سفاهةً ووقاحة وعبثًا وهراء، وانحرفت عن الخط الصحيح، ومهما تخطت الحدود بالتجرؤ السافر على النيل من أشرف وأجل ما تعتز به الأمة من التراث والتاريخ وصانعيه، والإساءة إلى أصحاب البطولات الفذة من السابقين واللاحقين من رجالات الإسلام الذين بيضوا وجه الإسلام، وأعادوا مجده في مختلف الأزمان، وسقوا شجرته الطيبة المباركة بدمائهم الزكية القانية كلما أصابها الجدب، وحافظوا على غرس الإسلام كلما أصابه إعصار أو أصابته نار .

الحقيقة أنه لم يكن في حسباني وتصوري أن هناك من يسقط -من إخواننا العرب الذين نحمل لهم في قلوبنا من الاحترام والتقدير ما يليق بمكانتهم من حيث كونهم منتمين إلى الرعيل الأول من الإسلام -إلى هذا الدرك الأسفل من الروح الانهزامية- والاستسلام -بل الاستعباد- الفكري.. وإلى هذه الدرجة المنحطة من الجحود والعصيان والتمرد والطغيان، فيسمي عظماء الأمة السابقين -استهزاء واحتقارًا- بـ«الهالكين»، ويسمي التذكير بمآثر السلف الخالدة، والحث على السير على خطاهم واقتفاء آثارهم، يسمي ذلك بـ«ثقافة استحضار موتى»، و«استحضار عظام الأجداد»، و«أغاني الحنين إلى الغائبين»، أو «فتح قنوات الهالكين في الحياة»، وما إلى ذلك من تعبيرات ممجوجة دنيئة يعف عن استعمالها عارف بمكانة الأولين معرفة بسيطة، فضلًا عن المثقف البصير الواعي، فضلًا عن المسلم المعتز بدينه وتراثه وماضيه.

واستميح القارئ العزيز أن أنقل إليه سطورًا من المقال – الذي يقطر حقدًا وغلًّا وسخرية سافرة من سالفي الأمة وروادها الأماثل! حتى يتأكد من صدق نسبة «هذه الأقوال الذهبية» إلى صاحبها المبدع:

«ثقافتنا استحضار موتى، أغانينا حنين إلى ما غاب، يومنا وغدنا رجاء عودة إلى الأمس، إذ يفتح شاعر أو خطيب قنوات البائد في الحياة، وفينا نطرب ونصفق، وإذ يحاول استشراف كوة في غدنا، نصدم ونصمت صمت المخذولين».

سامحك الله أيها الرجل! كيف ساغ لك أن تسمي الحديث عن أمجاد الأماجد وعظمة العظماء من السلف بـ«استحضار ثقافة موتى»؟ ألم يهتم القرآن الكريم نفسه ببيان قصص الأولين وتاريخ الماضين للاستفادة والاعتبار، أما قرأت قوله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ} (يوسف: ٣) أما استحييت وأنت تسمي العظماء الأولين بـ«موتى»، والقرآن يسمي كثيرًا منهم: «أحياء»، وإنك أطلقت الحكم على جميع الذين مضوا بأنهم أموات، ومنهم شهداء منع الله سبحانه من أن يسموا أمواتًا.. {بل هم أحياء عند ربهم يرزقون}، ثم الذين لم يفوزوا بالشهادة كثيرون منهم -رغم أنفك- أحياء! أحياء في قلوب مئات الملايين من أبناء الأمة بما خلفوا من آثار خالدة، وأصلوا من مجد عريق، وسجلوا من صفحات البطولة والفداء، وتركوا من بصمات لا تمحى في مختلف المجالات، وعن أمثالهم قال الإمام الشافعي:

قد مات قوم وما ماتت مكارمهم

وعاش قوم وهم في الناس أموات

لا ندري ما الذي دعا صاحبنا -الكاتب العبقري في الهراء- إلى أن يذكر سلف الأمة بهذا الأسلوب الوقح الهجائي، ألا يعرف فضلهم ومننهم العظيمة على الأمة، والأمم الحية تذكر أبطالها -دائمًا- بخير، وتخلد آثارهم، وهذا الذي تعلمناه من قرآننا من ذكر اللاحقين للسابقين بالإيمان والإحسان، وذكرهم بالخير والدعاء لهم بالرحمة والمغفرة، قال تعالى: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } (الحشر: ١٠)، أما ذِكرُ الخلفِ للسلف بالسوء والشتم واللعنة، فليس ذلك شيمة المؤمنين: {كلما دخلت أمة لعنت أختها} (الأعراف: ۷۸) .

ولا يعني دفاعنا عن السابقين واحترامنا لهم احترامًا يليق بمكانتهم، لا يعني ذلك أننا نعتبرهم معصومين، فكل ما فعلوا أو قالوا حق وصواب مئة في المئة، فهذا لا يقول به أحد عن أحد مهما كان.. فكل يؤخذ من قوله ويرد عليه إلا المعصوم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن لن يُسمح -أبدًا- بهذه النظرة الاحتقارية التي دعا إليها صاحب المقال، وبتمرير هذه الفكرة الهادمة الناسفة لركائز فخار الأمة وأسس كرامتها وعزتها.

وعجيب أن يستهزئ من ينتمي إلى أمة الإسلام بعظماء الإسلام وفضلهم وسبقهم في وقت يشيد فيه المنصفون من الأجانب بتقدم المسلمين وعظمة حضارتهم وتفوقهم في العلوم والصناعات.

تقول الكاتبة الألمانية الدكتورة سيجريد هونكة: «إن أوربا تدين للعرب وللحضارة العربية، وأن الدَّين الذي في عنق أوربا وسائر القارات للعرب كبير جدا»، (مجلة «الداعي» العربية، ديوبند الهند، العدد (١١) السنة ٢٤).

وقال دريبر الأستاذ في جامعة «هار فارد» الأمريكية في كتابه: «المنازعات بين العلم والدين». «إننا لندهش حين نرى في مؤلفاتهم من الآراء العلمية ما كنا نظنه من نتائج العلم في هذا العصر، وإن جامعات المسلمين كانت مفتوحة للطلبة الأوروبيين الذين نزحوا إليها من بلادهم لطلب العلم، وكان ملوك أوربا وأمراؤها يفدون على بلاد المسلمين ليعالجوا فيها» (المصدر السابق).

ثم إن مقياس الرقي في المجتمع الإسلامي غير مقياسه في المجتمع المعاصر المادي، فمقياس التقدم عندنا ليس بالسبق في الاختراعات والمنجزات العلمية، كما هو الشأن في الحضارة المادية، بل إن رقينا بمدى اعتصامنا بحبل الكتاب والسنة، وتمسكنا بالمثل والمبادئ والأخلاق الإسلامية، ولذا فإن أرقى المجتمعات -عندنا- وأعلاها مجتمع الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ومن بعدهم في القرون الأولى المشهود لها بالخير، على أن الإسلام لا يعارض الأخذ بالمفيد والجديد النافع من أمور الحياة ولو كان من العدو، فما اشتمل على مصلحة دنيوية ولا يخالف حكمًا شرعيًّا أو أدبيًّا، فالحكمة ضالة المؤمن حيث وجدها فهو أحق بها، بل قد يتأكد العمل به، ويدخل في ذلك مجاراة الآخرين في العلوم والاختراعات والصناعات وأسباب التقدم المادي.. مجلة: الدعوة – الرياض، العدد (۱۷۸۸).

وصدق عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذ قال:

«نحن كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العزة بغيره أذلنا الله».

ونعود إلى نصائح الكاتب الغالية، فمما ينصحنا ويدعونا إليه هو أن نتمرد على ماضينا الرائع المجيد، ونتشاجر مع تاريخنا المشرق، ويعتبر ذلك ـ التمرد على الماضي ومشاجرة التاريخ – عمل «الأحياء»، فيقول كاتبنا «الحي»: «ليس حيًّا من لا يسائل الماضي ويناقشه أو يتمرد عليه»، ويستطرد قائلًا: «وهذه الأمة الشاسعة والعريقة في القدم لن تكون لها حياة إلا إذا تشاجرت مع تاريخها، فهل ستجرؤ هذه الأمة يومًا على التشاجر مع التاريخ، ويقول: «الحاضر والمستقبل هما للأحياء وحدهم، الأموات يموتون في مقبرة التاريخ ويستسلمون لها، الأحياء هم الذين يتشاجرون مع التاريخ».

لا نكاد -والله- نفهم ما يريد الكاتب «الحي» بالدعوة إلى التمرد على الماضي الذي وصفه «بالميت» في نفس المقال؟ إذا كان يريد قطع الصلة عن الماضي الكامل قطعًا باتًّا، أو التخلي عنه والبراءة منه فلا يتجرأ على القول بذلك رجل يحمل مثقال حبة من خردل من عقل ووعي فضلًا عن إيمان واعتزاز بالدين والعقيدة والتراث.

ترى ماذا يبقى للمسلم – لبناء حياته – لو تخلى عن ماضيه المجيد، على أننا لسنا ممن يكتفون بالتغني بأمجاد الماضي في أجمل النغمات والألحان فقط، بل نحن من المؤمنين بالمزج بين أصالة الماضي وواقعية الحاضر بأمل المستقبل، (وبالجمع بين العصامية والعظامية)، وكما قال الدكتور يوسف القرضاوي: «ولا يشفع لها -للأمة- التغني بأمجاد الماضي، إذا لم تصل أسبابه بالحاضر وإلا صدق فيها ما قاله الشاعر قديمًا:

ألهى بني تغلب عن جل أمرهمو

قصيدة قالها عمرو بن كلثوم

يفاخرون بها مذ كان أولهم

يا للرجال لشعر غير مسؤوم

إن القديم إذا ما ضاع آخره

كصارم فلت الأيام مثلوم

(الأمة الإسلامية حقيقة لاوهم ص ٤٩).

وكذلك مفهوم الدعوة إلى التشاجر مع التاريخ مفهوم غامض يحتاج إلى شرح، فإذا كان يعني مفهومها غربلة التاريخ وتنقيحه وإعادة كتابة بعض أجزائه -مما يتعلق بالحكام والأمراء خاصة- بشكل أكثر حيادًا وموضوعيًّا وجديًّا، فهذا أمر قد لا نختلف فيه مع الكاتب كثيرًا، بل نؤيد فكرته ونحبذها، ولكن إذا كان يعني ذلك – مفهوم التشاجر مع التاريخ – التنكر للتاريخ، والإعراض عنه كليًّا، وإلغاءه بجرة قلم، وعدم الاستفادة منه والاعتزاز به أصلًا كما يوحي إلى هذا المفهوم أسلوب الكاتب، فذاك أمر لن يجرؤ حتى على مجرد التفكير فيه وتصوره مسلم خالص الإسلام والعقيدة .

كيف يمكن أن يفكر المسلم في التنازل أو الإعراض عن تاريخه الذي يمثل سجلًّا أمينًا لروائع حضارته، وذاكرة فذة تحفظ في ثناياها أمجاد ومفاخر أمته، وديوانًا ضخمًا لعبرها وبصائرها وأحداثها وحوادثها، ذلك التاريخ الفريد الذي يبدأ من سيد الأنبياء وخاتمهم سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ويقف في محرابه الواسع الكبير أناس لم تطلع الشمس على أفضل منهم -بعد الأنبياء- لا قبلهم ولا بعدهم، ولا أظلت السماء ولا أقلت الغبراء أكرم ولا أبر ولا أصدق منهم.

إنه محراب يشرفه أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ (رضوان الله عليهم) وعمر بن عبد العزيز وعمرو بن العاص وخالد بن الوليد، والأئمة الأربعة، وغيرهم من آلاف العمالقة والعباقرة والأعلام الأفذاذ الخالدين بمآثرهم وبطولاتهم، وكان كل واحد منهم جعل نصب عينيه قول الشاعر:

وكن رجلا إذا أتوا بعده

قالوا مر وهذا الأثر

أفهل يجرؤ عاقل -فضلًا عن مؤمن غيور- على تبني مثل هذه الدعوة المنكرة، الدعوة إلى التمرد على مثل هذا التاريخ المشرف الناصع الذي لا يضارعه تاريخ أمة من الأمم.

وصاحبنا «الكاتب الحي» -هداه الله- قد بدت البغضاء -من قلمه- للتاريخ الإسلامي، حتى استخدم له تعبير: «جثة التاريخ»، بل جعله عنوانًا لمقاله، فعنونه بـ«جثة التاريخ» كأنه -التاريخ- مثل جثة ميت قذرة، وجيفة عفنة ينبغي الابتعاد منها حتى لا نصاب بالروائح الكريهة التي تنبعث من جثة التاريخ الإسلامي (والعياذ بالله).. كما ينم عن ذلك أسلوبُ الكاتب وإن لم يتجرأ على المجاهرة به ليحفظ ماء وجهه إلى حد ما.

وتطيش بالكاتب «الحي» نزعة -بل هوسة- التمرد على الماضي والتاريخ، و«هوسة» التنقص للعظماء السابقين بصفة عامة وتهجين بعض الأبطال الفاتحين بصفة خاصة، فكأنه لا يعي ما يقول.. فكتب -في جرأة جريئة وصفاقة صفيقة- في مكان من المقال:

«تهيج الذكرى بنا، ونستحضر عظماء أجدادنا، نسأل عن صلاح الدين وأمثاله لكي ينجدونا، هؤلاء الذين لم يعد التراب نفسه يعرف عظامهم».

لا حول ولا قوة إلا بالله. ولا نشتكي إلا إلى الله!

لمثل هذا يذوب القلب من كمد

إن كان في القلب إسلام وإيمان

سامح الله الكاتب وهداه، لا ندري -والله- عما إذا كان ـالكاتب- في كامل يقظته وشعوره بما يكتب وعمن يكتب حينما كان يكتب هذه السطور الجارحة الساخرة من أحد أبطال الإسلام المعدودين الذين ستظل بطولاتهم الرائعة وفتوحاتهم العظيمة تشرف المسلمين وتاريخهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

إننا على يقين كامل بأن الكاتب -المهووس بالطعن في الماضي الإسلامي ورجالاته- كان فقد بعضًا -إن لم نقل كاملًا- من رشده ووعيه -للحظاتـ وهو يسود الورق الأبيض الصقيل بكتابة هذه السطور المستهزئة الوقحة عن هذا الفاتح المسلم العظيم الذي يتقرب بحبه كبار الصالحين الأتقياء الأخيار إلى الله، ويعدونه معجزة من معجزات الإسلام الخالدة، وآية من آيات الله الباهرة، ويغارون على سعادته التي حظي بها دون غيره، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.

وهل هناك أحد من المسلمين، فضلًا عمن له أدنى إلمام بتاريخ الفتوحات الإسلامية يجهل مكانة هذا البطل المغوار الفذ الشهير وعظمة أعماله وجلالة مآثره؟!

فكيف نظن بكاتب عربي جليل أن يجهل هذه الجهالة الجهلاء؟

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته

والبيت يعرفه والحل والحرم

 عم البرية بالإحسان فانقشعت

عنها الغياهب والإملاق والعدم

 فليس قولك من هذا بضائره

العرب تعرف من أنكرت والعجم

يستبعد من رجل عاقل مسلم أن يهذر بهذه الكلمات النابية وهو يعرف مكانة هذا الرجل العظيم.. الرجل الذي له منة على الأمة قاطبة، وله من روائع البطولات والمآثر ما يعد فصلًا ذهبيًّا من فصول تاريخنا الجهادي البطولي العام، الرجل الذي رفض أن يبتسم حتى يطهر المسجد الأقصى المبارك من دنس الصليبيين، والذي يرجع إليه الفضل الأكبر -بعد الله- في استرداد الشرف المفقود والكرامة الضائعة والعز السليب وتوحيد الصف الإسلامي آنذاك، الرجل الذي يُعْرف ببطل «حطين».. تلك المعركة الخالدة التي تضاءلت أمامه الفتوح، وأثنت عليه الملائكة والروح حسب تعبير الشيخ أبي الحسن الندوي – رحمه الله – الذي يعبر عن حبه لصلاح الدين بقوله:

«وأنا من قديم الزمان أحمل للسلطان الشهيد نور الدين زنكي والغازي صلاح الدين الأيوبي من الإجلال والاحترام -ما لا أحمل لملك من ملوك الإسلام- وأتقرب إلى الله بحبهما والدعاء لهما».

ويضيف قائلا: «السلطان صلاح الدين الأيوبي معجزة من معجزات الإسلام الخالدة، وآية من آيات الله الباهرة» (صلاح الدين الأيوبي ص ۱، ۲، ۳) .

يقول الكاتب -وهو يستهزئ بتذكر المسلمين لبطولة وجهاد صلاح الدين وتلهفهم وانتظارهم لـ«صلاح دين «جديد»-: نسأل عن صلاح الدين وأمثاله لكي ينجدونا.

بلى! نحن في هذا العصر – بالذات – أحوج ما نكون إلى صلاح دين جديد،

لكي يطهر المسجد الأقصى من دنس اليهود والصهاينة، ويعيد إلى الإسلام هيبته وسلطانه، وإلى الأمة كرامتَها وشرَفها، ويبيض وجه الإسلام، وإلى أمثال الكاتب رشدَهم ووعيهم! والعلماء والدعاة -فعلًا- يتمنون ويوصون كل فتاة أن تعمل جاهدة لتخرج من بطنها صلاح الدين الذي يسترد للأمة مجدها، وكل مسلم غيور يتمثل بأبيات خير الدين الزركلي على لسان فلسطين الشهيدة وأهلها:

هاتي صلاح الدين ثانية فينا

وجددي حطين أو شبه حطينا

يقول الشيخ الندوي رحمه الله وهو يلفت الأنظار إلى ضرورة تعريف المسلمين بمآثر صلاح الدين وإبراز محاسنه في هذا العصر بصفة خاصة:

«وهو -صلاح الدين- حقيق بأن يعكف على دراسة سيرته وأخباره أجيال المسلمين وعلماؤهم وحكامهم، وأصحاب الفتوة والفروسية والطموح والغيرة الإسلامية، والبطولة الإنسانية في كل زمان ومكان وفي كل عصر ومصر، وأن يتنافس المؤلفون وحملة الأقلام والمحققون في التأليف في سيرته ومكارمه وبطولاته، وأن تشكل له مجامع علمية، تنقطع إلى التحقيق والتأليف في هذا الموضوع.

ولعل هذا العصر الذي نعيشه هو أشد حاجة، وأكثر طلبًا لإبراز محاسنه، وتحديد مكانته في تاريخ الجهاد والتجديد الإسلامي من كل عصر مضى». (المصدر السابق ص ٤٢).

ويقول الشيخ الندوي -وهو يلقى الضوء على مآثر صلاح الدين مجموعة- مؤكدًا على أن أي مسلم في أي عصر ومصر لن يتخلى من منته:

«وبالجملة فإن صلاح الدين بينما هو -بالوقوف في وجه الغزاة الصليبيين الطامعين- قد أنقذ العالم الإسلامي من الرق السياسي والفوضى الخلقية والثقافية، وأنجاه من براثن الزاحفين من الغرب، إذا هو -بالقضاء على الدولة الفاطمية العبيدية- سد أبواب الفساد الذي قد أخذ يستشري ويشيع الباطنية والإسماعيلية لا في مصر فحسب، بل في العالم الإسلامي كله، وتمخض عن الفوضى الفكرية والتدهور العقائدي والتفسخ الخلقي الذي ظلت الأمة الإسلامية فريستها طيلة ثلاثة قرون.

إن التاريخ الإسلامي المجيد لن ينسى هذين العملين اللذين قام بهما السلطان صلاح الدين الأيوبي، ولن يتخلى أحد من المسلمين في أي عصر ومصر من منته» (المصدر السابق ص: ٧٥).

وظلت بطولة صلاح الدين محل إعجاب وإعظام حتى لدى المنصفين من غير المسلمين، فيشيد المؤرخ الإنجيلزي الكبير «إستينلي لين بول» بعظمة صلاح الدين غاية الإشادة قائلا:

ولو لم يذكر الدهر من مكارم السلطان صلاح الدين وجلائل أعماله إلا أنه كيف استعاد «بيت المقدس»، لكانت تكفي هذه المكرمة وحدها للدلالة على أنه لم يكن -في مروءته وشهامته وبعد همته وكرامته- وحيد عصره وفريد دهره، بل كان رجلًا وحيد العصور والأجيال كلها. (المصدر السابق ص (۳۹).

هذا هو صلاح الدين الذي يعترف بعظمته لا المسلمون فقط، ولكن حتى الأعداء، والفضل ما شهدت به الأعداء، ولكن مسلمًا عربيًّا في العصر الحديث يستهزئ برموز الأمة السابقين، بصفة عامة، وصلاح الدين بصفة خاصة، ويدعو إلى التمرد على الماضي، ونبذ التاريخ، فلا نملك إلا أن نقول لهذا المهذار -صاحب «جثة التاريخ»- أن يستعد لكي يتبوأ مقعده -إذا لم يرجع إلى رشده- في مزبلة التاريخ!

(الجمعة: ١٠ من ذي القعدة ١٤٤٦ھ = ٩ من مايو – أيار – ٢٠٢٥م).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى