بحوث ودراسات

د. تيسير التميمي يكتب: معركة العفولة

العفولة هي مدينة فلسطينية تقع إلى الجنوب من مدينة الناصرة وإلى الشمال من مدينة جنين، وتتوسط سهل مرج ابن عامر وتلقب بعاصمة المرج، وقعت كغيرها من المدن والقرى الفلسطينية تحت الاحتلال الصليبي، ولكن تم تحريرها بعد الانتصار العظيم في معركة حطين، وأما معركة العفولة فهي واحدة من معارك الحروب الصليبية في أرض فلسطين التي خاضها صلاح الدين الأيوبي رحمه الله، الملك الناصر لدين الله الذي تربى على يد السلطان العادل نور الدين زنكي الذي وضع نُصْبَ عينه هدفاً عظيماً هو قتال الصليبيين وتحرير القدس من أيديهم، صلاح الدين الذي حقق أمنية سلطانه فحرر القدس وغيرها من أرض الإسلام وأنقذها من أيدي الغُزاة نظراً لمكانتها وقدسية مسجدها الأقصى المبارك عند المسلمين، هذه المكانة التي أكدها الله عز وجل في آيات يتلوها عباده ويناجونه بها أبد الدهر آناء الليل وأطراف النهار، منها قوله سبحانه وتعالى

{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}

الإسراء 1

     في معركة العفولة أو الفولة اشتبكت القوات الصليبية بقيادة القائد الفرنسي غايْ دي لوزينيان مع الجيش الإسلامي اشتباكاً خفيفاً على مدى أكثر من أسبوع في أواخر شهر أيلول وأوائل شهر تشرين الأول من عام 1183م على أرض فلسطين المباركة، هذه الأرض التي تعاقب القادة المسلمون قبل صلاح الدين وبعده كل بطل منهم يكمل إنجازات الذين سبقوه ومهدوا له الطريق، تعاقبوا على الجهاد في سبيل الله بهدف تحرير أرضهم الغالية من هذا الغزو الفاشيّ الفاشل حتى تم لهم ذلك في معركة عكا عام 1291 بعد قرنين من الجهاد الذي لم يتوقف ضد المحتلين الغاصبين من الصليبيين، فقد كانت معركة عكا نقطة تحول تاريخية لأن عكا مثَّلَتْ آخر معقل صليبي لهم في فلسطين وبلاد الشام، فعلى إثرها رحلوا منها نهائياً مطرودين مهزومين، وفيها كُتِبَتْ نهايتهم وطُوِيَتْ صفحتهم بعد أن خاب امل دهاقينهم وكبرائهم في استرداد مدينة القدس واستلابها من أيدي المسلمين واستعادة السيطرة المطلقة والهيمنة الدائمة عليها، كان هذا نتيجة جهود جبارة وانتصارات مرحلية متعاقبة قطف ثمارها الجيل اللاحق وقياداته ليتمموا البناء والتشييد والانتصار استكمالاً لإنجازات الجيل السابق وقياداته، فأفلح الخلف كما أفلح السلف في نشر دين الله وتطبيق شرعه من خلال الجهاد في سبيله ورفع رايته، فالجهاد هو الفلاح في الدنيا والآخرة، قال تعالى

{لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} براءة 88.

     وأما عن الظروف التي أدت إلى معركة العفولة فلأن صلاح الدين يدرك أهمية الوحدة للأمة وأنها أمضى أسلحتها في مواجهة الأعداء والتصدي لمؤامراتهم، وليقينه بأن التنازع والتصارع بين الأخوة من أكبر القواصم التي تصيبهم مصداقاً لقوله تعالى

{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}  الأنفال 46،

فهذا اليقين هو ثمرة التوحيد، فأمتنا الخالدة ربها واحد ودينها واحد وكتابها واحد ورسولها واحد، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بلزوم الجماعة وعدم تركها، فمن ذلك قوله {… عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد وهو من الإثنين أبعد، من أراد بحبوحة الجنة فلْيَلْزَمْ الجماعة…} رواه الترمذي، ومعنى بحبوحة الجنة أي وسطها وخير مكان فيها، لذا فقد نجح صلاح الدين بعد حروب عديدة وجهود مضنية في ضم مصر وسوريا والحجاز وتهامة والعراق وجمعها في دولة إسلامية موحدة تحت قيادة واحدة تتبع خليفة واحداً هو الخليفة العباسي؛ وحتى إن كانت هذه الخلافة شديدة الضعف ولا تشكل أي ردع للأعداء إلا أن الوحدة في هذه الحالة خير ألف مرة من التشرذم والتمزّق، بعد هذا التوحيد والائتلاف والتآلف أصبحت مملكة صلاح الدين تحيط بمملكة بيت المقدس وبالإمارات الصليبية الأخرى إحاطة تامة من الشمال والشرق والجنوب،

     ولما اطمأن صلاح الدين إلى تماسك دولته الفَتِيَّةِ انتقل إلى تنفيذ القسم الثاني من مخططه السياسي الذي يتمثل في محاربة الصليبيين وطردهم من الأراضي الإسلامية، فدارت بينه وبينهم معارك كثيرة انتصر في معظمها، فعلى سبيل المثال استمر جنود جيشه في مهاجمة مملكة بيت المقدس الصليبية عن طريق الجليل وشرق الأردن وقلعة أيلة (قرب مدينة العقبة) في شهر أيار من عام 1182م، فقاومه الملك بلدوين الرابع ملك بيت المقدس بنجاح في معركة قلعة كوكب الهوا خلال الصيف، وعلى الرغم من ذلك استمر صلاح الدين في مهاجمة الأراضي الفلسطينية المحتلة من قبل الصليبيين مما تسبب بإلحاق أضرار بالغة وخسائر فادحة لمزارعيهم وعمالهم وغيرهم من الصليبيين المسيطرين عليها.

     وبحلول شهر أيلول 1183 كانت الحالة الصحية للملك بلدوين المريض منذ سنوات بالجذام قد تدهورت، فأصيب بالشلل بحيث لم يعد قادراً على القيام بمهامه كملك سواء في ذلك العسكرية وغيرها. لذا فقد تم تعيين غاي لوزينيان وصياً على العرش بصفته زوج سيبيلا أخت الملك بلدوين والتي أصبحت فيما بعد ملكة بيت المقدس.

     لم تتوقف مسيرة جهاد صلاح الدين في سبيل الله الْتزاماً بقوله تعالى

{انفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} التوبة 41،

فقد بلغه أن الصليبيين قد اجتمعوا لقتاله في صفورية، فعبر نهر الأردن في 9 جمادى الآخرة سنة 579 هـ الموافق فيه 29 أيلول من سنة 1183م إلى بيسان، فوجدها خاوية خالية مهجورة فخرَّبها وفي اليوم التالي أضرمت قواته النار فيها لئلا يرجع إليها الصليبيون ويتمركزوا فيها ويعمّروها من جديد وينطلقون منها في حرب المسلمين، ثم سار غرباً حتى مرج ابن عامر ووضع جيشه بالقرب من الينابيع على بعد حوالي 8 كم جنوب شرق العفولة. وفي ذات الوقت أرسل عدة سرايا لتخريب أكبر قدر ممكن من ممتلكات الصليبيين في بلدات زرعين والطيبة وجبل طابور وغيرها من البلدات التي يسيطرون عليها.

     وفي تلك الأثناء تحرك الجيش الصليبي الرئيسي بقيادة غاي لوزنيان من صفورية إلى العفولة متوقعاً هجوم جيش صلاح الدين بسبب ورود الأخبار من كشافته بتوجّهه إليها. وحقيقة الأمر أن صلاح الدين كان قد أرسل سرية هائلة من كبار المقاتلين والمجاهدين لمناوشة الصليبيين تتكون من خمسمائة مقاتل، فوجدوا جيش الكرك الصليبي قادم لنجدة جيش القائد غاي لوزنيان، فاعترضتهم السرية وجرى قتال بين الطرفين إدى إلى مقتل عدد كبير من الصليبيين وأسر مائة، أما السرية  فقد استشهد واحد فقط من جنودها تقبَّله الله مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، ولم يتمكن جيش الكرك من الوصول إلى جيش غاي فعاد إلى الكرك في ذات اليوم،

     سار صلاح الدين ببقية جيشه إلى عين جالوت بهدف استدراج العدو إليها، وبالفعل تقدم جيش العدوّ بأسلوبه المعتاد نحو مصادر المياه في عين جالوت. وقام سلاح الرماية الصليبي بإبقاء رماة الخيول الأتراك على مسافة معقولة من جيشهم وبذلك لم يسمحوا لهم بالاقتراب منه، وشنوا بواسطة فرسانهم هجمات موضعية لإبعاد العرب والمسلمين من سكان إقليم البتراء في الأردن التابع للروم ومنعهم الاقتراب المباشر من جيشهم.

     وعلى الرغم من أن القوات الصليبية المشاركة في معركة العفولة كانت أكبر قوة جمعتها المملكة من مواردها الخاصة؛ إلا أنها ما زالت أقل من قوات المسلمين، لذا فلم تشارك هذه القوات بكاملها في المعركة، واستند جنود الجيش الرئيسي إلى جبل هناك وحفروا حولهم خندقاً، وقليل منهم اشتركوا في المناوشات الخفيفة المتفرقة مع المسلمين، وعند محاسبة غاي على هذا الخطأ الجسيم تذرَّع بأن جيش المسلمين يرابط في أرض وعرة مما يصعّب على الصليبيين التحرك والقتال فيها، وأنه نجح بذلك في الحفاظ على سلامة الجيش من القتل والأسر، وتذرع كذلك بأنه أحبط غزو صلاح الدين ومنعه من الاستيلاء على أية معاقل صليبية جديدة في حينها، لكن لجنة المحاسبة حملته المسؤولية كاملة عن نتيجة المعركة مما أدى إلى خسارته منصبه بعدها كوصيّ على العرش.

     هاجم الصليبيون بعض جنود القوات الخاصة لصلاح الدين بصورة مفاجئة، لكنهم ثبتوا في ميدان القتال مستحضرين قوله تعالى

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}  الأنفال 45،

وتحصنوا عند قاعدة أحد الجبال، واستمروا في مضايقة الصليبيين من خلال الرماية والهجمات المتجددة ومناوشات القتال التي لم تتوقف، وشددوا الضغط عليهم ليضطروهم إلى المواجهة والقتال المباشر لكنهم مع ذلك كله لم يخرجوا للقتال، بل دفعهم هذا إلى الاكتفاء بشن هجمات مضادة لتطهير خطوطهم من الجنود المسلمين فقاموا بعمليات قتالية بسيطة لكنها لم تتحول أبداً إلى معركة واسعة بين الجيشين بل إنهم انسحبوا من الميدان،

     وحيث إن صلاح الدين لم ينجح في استفزاز الصليبيين لخوض معركة ضارية فسحب جيشه من الينابيع وتحرك باتجاه مجرى نهر الأردن، بينما عسكر الجيش الصليبي حول الينابيع وظل ساكناً يترقب ويتحاشى المعركة لعدة أيام.

وحاول المسلمون تحريضهم على الهجوم عبر اعتراض قوافل إمداداتهم وفرض الحصار عليهم. لذا فسرعان ما أصبح وضع الإمدادات لدى الصليبيين حرجاً صعباً، ثم إن المسلمين توقفوا عن الاشتباك معهم عدة أيام لإيهامهم انتهاء الحرب ولإشعارهم بالأمان لعلهم يخرجون للقتال، لكن حتى هذه الخطوة لم تنجح لأنهم آثروا السلامة ورغبوا بالنجاة فظلوا معتصمين بالجبل محجمين عن ملاقاة جيش صلاح الدين وقتاله، وإنه لأمر مستغرب لأنهم هم الذين خرجوا أصلاً لقتال صلاح الدين في صفورية، وهم الذين تابعوه إلى العفولة، ثم تابعوه إلى عين جالوت لما سار إليها حيث كان من المنتظر نشوب المعركة الحقيقية فيها،

     تحرك صلاح الدين نحو جبل طابور على أمل استدراج الصليبيين إلى كمين، لكن غاي الذي لم يكن يرغب بمواجهة الجيش الإسلامي تراجع بجيشه إلى قلعة العفولة بدلاً من ذلك. وهنا انقضَّ جيش صلاح الدين بسرعة على الصليبيين فقتل منهم عدداً كبيراً من أطراف جيشهم وجرح مثلهم، إلا أنه لم يتمكن من إيقاف سيرهم أو تعطيله لأنهم مصرين على عدم القتال، وعاد الجيش الصليبي إلى قاعدته الرئيسية في صفورية، ولذلك تعرض القائد غاي لانتقادات شديدة من الصليبيين بسبب عدم خوضه المعركة ضد صلاح الدين على الرغم من أنه كان يقود مثل هذا الجيش الجرار. ونتيجة لهذه المعركة خسر غاي منصبه كوصي على العرش بعد فترة وجيزة منها، وقد حاول الاستفادة من هذا الدرس الثمين بعدم الوقوع بمثله فيما بعد، فعلى سبيل المثال قام بخطوة هجومية أودت به إلى كارثة ماحقة في معركة حطين في 1187 وكان حينها ملك بيت المقدس.

     وسط أحداث معركة العفولة هذه أوقع المسلمون خسائر جسيمة في المحاصيل الزراعية للصليبيين والقرى التي يسيطرون عليها، وهذا ليس بالأمر الهيِّن عليهم، فهو يؤثر في اقتصادهم ويسبب الغيظ لقلوبهم وصدورهم يؤجر عليه المجاهد في سبيل الله، قال سبحانه وتعالى عن أهل المدينة المنورة المجاهدين في سبيله

{… ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} براءة 120،

ومعنى نصب أي تعب، ومعنى مخمصة أي مجاعة، ومعنى موطئاً أي أرضاً، ومعنى نيلاً أي إصابة بقتل أو جرح أو أسر أو هزيمة.

     رجع صلاح الدين من هذه المعركة عن الصليبيين مؤيداً منصوراً، وكتب القاضي الفاضل إلى الخليفة العباسي يعلمه بأخبار المعركة ومجرياتها وتفاصيلها، ويبشره بما منَّ الله به على المسلمين من نصر عظيم، ثم توالت الانتصارات الصلاحية على الصليبيين حتى حرر القدس من أيديهم.

د. تيسير التميمي

قاضي قضاة فلسطين رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً أمين سر الهيئة الإسلامية العليا بالقدس

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى