أقلام حرة

د. محمد أكرم الندوي يكتب: السمع والبصر في القرآن تقديما وتأخيرا

درَّست في كلية كامبريدج الإسلامية تفسير بعض سور القرآن الكريم يومي السبت والأحد 15-16 من شهر رمضان المبارك، ووجهت إلى أسئلة كثيرة خلال هذه الدروس، منها سؤال: لماذا قدم السمع على البصر في آيات، وأخر في غيرها؟

 هذا سؤال يتكرر، فقلت: لا بد من النظر فيه حتى يكون الجواب مصيبا، وطالعت تأويلات المفسرين والباحثين في تفضيلهم السمع على البصر حيث قدم، والبصر على السمع حيث أخر، فدهشت من قلة التدبر.

راجعت الآيات التي ورد فيها السمع والبصر، فوجدت أن القرآن كثيرا ما يقرن بين السمع والبصر والفؤاد، فإذا قدم الفؤاد قدم البصر على السمع، وإذا أخر الفؤاد قدم السمع على البصر، فاهتديت بهذا النظر إلى أن القرآن يستعمل طريقي الترتيب المعروفين في اللغة العربية وسائر اللغات، وهما:

الترتيب الصعودي (Ascending Order): مثلا ترتيب الأعداد من الأصغر إلى الأكبر، فتعد من الواحد إلى المائة، أو مثلا تذكر أسماء أولادك من أصغرهم سنا إلى أكبرهم، ومنه أن تقص الأنبياء عيسى وموسى وإبراهيم ونوحا، وقد ذكر بعضهم بهذا الترتيب في سورة الأنبياء فخفي على المستشرقين وأذنابهم.

والترتيب النزولي (Descending Order): مثلا ترتيب الأعداد من الأكبر إلى الأصغر، فتعد من المائة إلى الواحد، أو مثلا تذكر أسماء أولادك من أكبرهم سنا إلى أصغرهم، ومنه أن تقص الأنبياء نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى، وقد كثر هذا الترتيب في القرآن، وهو ترتيبهم الزمني.

فالقرآن قد يذكر السمع والبصر ترتيبا صعوديا، وقد يذكرهما ترتيبا نزوليا، وفيما يلي بيان ذلك:

آيات الترتيب الصعودي:

الترتيب الصعودي أكثر، لأن الاحتجاج به أبلغ، فينتقل من حاسة إلى أقوى منها، ومن ذلك قوله تعالى:

{والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون} (سورة النحل، الاية 78)،

و{وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون} (سورة المؤمنون، الآية 78)،

و{ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون} (سورة السجدة، الآية 9)،

{قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون” (سورة الملك، الاية 23)،

{ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون} (سورة الاحقاف، الآية 26)،

و{ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا} (سورة الاسراء، الآية 36)،

و{قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون} (سورة الأنعام، الآية 46).

ففي هذه الآيات كلها اتبع الترتيب الصعودي أي السمع ثم البصر ثم الفؤاد، واتبع الترتيب نفسه في آيات لم يذكر فيها الفؤاد، مثلا:

{انا خلقنا الانسان من نطفة امشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا} (سورة الانسان، الآية 2)،

و{أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض وما كان لهم من دون الله من أولياء يضاعف لهم العذاب ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون} (سورة هود، الآية 20)،

و{حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون} (سورة فصلت، الآيات 20، 21، 22).

وأما قوله تعالى: {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون} (سورة الجاثية الآية 23)

فراعى فيه الترتيب الصعودي بين السمع والقلب، وأفرد البصر، فلا ينتقض الترتيب.

آيات الترتيب النزولي:

{لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم اذان لا يسمعون بها} (سورة الأعراف، الآية 179).

ففي هذه الآية ذكر القلب، ثم البصر، ثم السمع، وهو ترتيب نزولي، وهو قليل، ومنه قوله تعالى:

{ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا} (سورة السجدة، الآية 12)،

و{أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها} (سورة الأعراف، الآية 195)،

و{الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعا} (سورة الكهف، الآية 101)،

و{وحسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم ثم عموا وصموا كثير منهم} (سورة المائدة، الآية 71)،

و{وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون} (سورة النمل، الآية 81)،

و{قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السماوات والأرض أبصر به وأسمع ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحدا} (سورة الكهف، الآية 26).

ومنه قوله تعالى: {ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم} (سورة البقرة الآية 7)،

جعل بين القلب والسمع ترتيبا نزوليا، وأفرد البصر، ومثله قوله تعالى:

{أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون} (سورة النحل الآية 108)،

و{وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون} (سورة فصلت الآية 5).

وينبغي أن لا ننسى أن للقرآن حكمة في اتباع أحد الترتيبين، قد يتبين ذلك بتدبر يسير، فمثلا كلما ذكر خلق البشر والاحتجاج عليهم بما أودعهم من القوى اختار الترتيب الصعودي، وكلما ذكر غفلة الناس اتبع الترتيب النزولي، وفي الأمر تفصيل أكثر، وفيما ذكرنا كفاية، والحمد لله رب العالمين.

د. محمد أكرم الندوي

عالم ومحدث، من أهل جونفور الواقعة ضمن ولاية أتر برديش الهندية. وباحث في مركز أوكسفورد للدراسات

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى