وجع غزة يربو على كل أوجاع الأرض، فهي صعاب تعجز عن حملها الجبال، وتئن من تبعاتها الرجال، فهم بين أنياب جوع قتّال، وحصار فتّاك، وتحت نيران قصف لا يبقي ولا يذر، وأمام محتل غاصب، وعدو غاشم سخر كل إمكاناته الجبارة لإبادة الفلسطينيين، وتدميرهم، وتصفية قضيتهم.
وبالرغم من إمكانات المحتل الهائلة، فإن أوربا وأمريكا وحلف الناتو يقدمون للمحتل دعما مفتوحا بلا حدود ولا قيود، وهذا يجعل واجب المسلمين في المشارق والمغارب تقديم كل ألوان الدعم المادي والمعنوي لأهل غزة خصوصا، وفلسطين عموما، ودعمهم بلا حدود، ولا قيود، وهذا الدعم من المسلمين ليس نافلة، ولا سنة ولا أمرا مستحبا، بل هو فريضة واجبة، بل هو أوجب الفرائض في دين الإسلام، وهو واجب الوقت، وفريضة اليوم.
ومن وسائل الدعم الواجب علينا نحن المسلمين تجاه إخواننا في فلسطين التبرع بقيمة الأضحية لأهل غزة،
والسؤال الان: أيهما أفضل ذبح الأضحية أم التبرع بقيمتها لأهل غزة؟
الأفضل أن تذبح الأضحية في غزة، وتوزع على أهل غزة، فإن لم يمكن ذلك، فالتبرع بقيمتها لأهل غزة هو أولى وأفضل، وثوابه أعظم، وأثره أروع، وعاقبته أحسن، وفيه إحياء لنفوس مليونين ونصف المليون من البشر من مجاعة قاتلة، وحصار مطبق، وإحياء نفس واحدة من هذه النفوس يعدل عند الله تعالي إحياء الناس جميعا، وتركهم وحدهم تحصدهم آلة القتل الصهيوني، فقتل نفس واحدة منهم تعدل عند الله تعالي قتل الناس جميعا، قال تبارك وتعالي: ﴿مِنۡ أَجۡلِ ذَٰلِكَ كَتَبۡنَا عَلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ أَنَّهُۥ مَن قَتَلَ نَفۡسَۢا بِغَيۡرِ نَفۡسٍ أَوۡ فَسَادٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعٗا وَمَنۡ أَحۡيَاهَا فَكَأَنَّمَآ أَحۡيَا ٱلنَّاسَ جَمِيعٗاۚ﴾ [المائدة: 32]
فدعمهم بكل الوسائل المتاحة والممكنة إحياء لنفوسهم، وخذلانهم والتخلي عنهم قتل لأنفس حرم الله قتلها، وقتل نفس واحدة من هذه النفوس يعدل عند الله تعالي قتل الناس جميعا.
ونعود للإجابة على السؤال: هل عدم ذبح الأضحية، والتبرع بقيمتها لأهل غزة، يعد تركا وإهمالا لشعيرة من شعائر الإسلام؟
والإجابة:
لا، لأن التبرع لغزة إقامة لفريضة هي واحدة من أوجب فرائض الإسلام، والأضحية سنة مؤكدة من سنن الإسلام، والتبرع لغزة أولى وأفضل وأحسن، التبرع لغزة فيه إغاثة لملهوف، أو إنقاذ لجائع من الموت جوعا، أو إنقاذ لمصاب من الموت جريحا، أو إنقاذ لمحاصر من الموت قصفا، أو إنقاذ لصحيح تحت الأنقاض لا يجد من يرفع الهدم من فوقه ليخرج صحيحا معافا، وكل هذا مقدم على كل شعائر الإسلام، حتى ولو كانت أهم فرائضه وهى الصلاة.
وجوب قطع الصلاة لإغاثة ملهوف:
الصلاة هي عماد الدين، والفارق بين الكفر والإسلام، من أقامها فقد أقام الدين ومن هدمها فقد هدم الدين، وإذا دخل المسلم في الصلاة فلا يجوز له الخروج منها، إلا لما هو أوجب وألزم، وهذا ما حكاه القاضي الباقلاني في كتابه التقريب والإرشاد 2/69 فقال: ” ولا يترك الواجب ويجب تركه، إلا بما هو أوجب، وألزم منه، كإخراج الغريق، وطفي الحريق، وأمثال ذلك مما يجب قطع الصلاة له”
وقال الحصكفي في الدر المختار 1/44.: ”يجب قطع الصلاة لإغاثة ملهوف وغريق وحريق”
وقال الفقهاء: إنه يجب قطع الصلاة لإغاثة غريق إذا قدر على ذلك، سواء أكانت الصلاة فرضا أم نفلا، وسواء استغاث الغريق بالمصلي أو لم يعين أحدا في استغاثته، حتى ولو ضاق وقت الصلاة، لأن الصلاة يمكن تداركها بالقضاء بخلاف الغريق، إذا مات لا يمكن تداركه.
فالإسلام دين العدل والشهامة والنجدة والنخوة والرجولة، الإسلام دين يحارب الظلم والظالمين، ويوجب إغاثة المستغيثين، ونجدة الملهوفين، ومعاونة المحتاجين، ومساعدة المكلومين، سواء استغاثوا، أو لم يستغيثوا فعلى المؤمن أن يبادر ويسارع لمساعدة هؤلاء متى استطاع إلى ذلك سبيلا، وعليه أن يبذل قصارى جهده لإنقاذهم وغوثهم، حتى لو كان قائما يصلى بين يدي رب العالمين فرضا أو نفلا، فمن كان قائما يصلى ورأى أعمي على شفا بئر، أو بصيرا على شفا الغرق، أو إنسانا أحاطت به مهلكة، أو ألمت به مصيبة، فعليه أن يخرج من صلاته لتقديم العون والمساعدة لهؤلاء، وهذا العون، وتلك النجدة هي على وجه الوجوب لا على وجه الاستحباب.
حتى قال أبو بكر الرازي الحنفي في كتابه الفصول في الأصول 2/18.: ” من عليه تخليص الغريق لو اشتغل بالصلاة كان عاصيا” فالمسلم إذا دخل في الصلاة، وكبر تكبيرة الإحرام، فعليه ان يتم الصلاة، ولا يجوز له أن يخرج منها، فإذا رأى إنسانا يغرق وهو يستطيع إنقاذه، فيجب عليه أن يخرج من الصلاة لإنقاذ الغريق، وسواء استغاث به الغريق أم لا، فبمجرد رؤيته وهو يصارع الغرق، يجب على المصلى الخروج من الصلاة وإنقاذه، فإن لم يفعل كان تاركا لواجب وكان عاصيا لرب العالمين.
الإسلام دين الإنسانية:
والإسلام دين العدل المطلق، ودين المساواة بين الناس جميعا، ودين يحارب العنصرية، والتمييز، ودين يهدف إلى تحقيق العدالة في أرجاء الكون كله بين المسلمين وغير المسلمين، وإذا كان دين الإسلام يوجب إنقاذ الغريق، وإطفاء الحريق، وإغاثة المستغيثين، ونجدة الملهوفين، فليس ذلك للمسلمين وحدهم، بل لكل إنسان على وجه الأرض مسلما كان أو كافرا، فيجب على المسلم إنقاذ الغريق حتى ولو كان كافرا، وليس هذا فحسب، بل لو كان المسلم في صلاة الفريضة، ووجد كافرا يغرق، وهو يستطيع إنقاذه، فيجب عليه الخروج من الصلاة وإنقاذ الغريق الكافر، هل رأيتم دينا كهذا الدين، إنه إرساء لتعاليم المدينة الفاضلة التي تحلم بها الإنسانية ولن تجدها إلا في ظل هذا الدين، قال علاء الدين المرداوي الحنبلي في كتابه الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف 3/658: ” يجب على المسلم أن يقطع الصلاة لإنقاذ كافر أوشك أن يسقط في بئر، أو يغرق في ماء، ثم يستأنف الصلاة، وفي رأى يتمها”
والخلاصة:
اتفق فقهاء الإسلام على وجوب الخروج من الصلاة لإغاثة ملهوف، أو إنقاذ غريق، أو إطفاء حريق، ومن رأى شيئا من ذلك أثناء صلاته، ولم يخرج منها للقيام بهذا الواجب كان عاصيا، ولكن هل تبطل صلاته أم لا، أفتى بعض الفقهاء ببطلان الصلاة، لكن الجمهور على صحة الصلاة لكنه باء بإثم من الله.
وإذا كانت الصلاة هي عماد الدين، وهي الركن الثاني من أركان الإسلام بعد الشهادتين، وقد أوجب الإسلام الخروج منها لنجدة ملهوف، أو مساعدة مكلوم، أو لإطفاء حريق، أو لإنقاذ غريق،
فإن عدم ذبح الأضحية والتبرع بقيمتها لأهل غزة ليس إهمالا لشعيرة من شعائر الإسلام، بل تقديم قيمة الأضحية لأهل غزة هو أعظم ثوابا، وأحسن مآلا، وأروع أثرا، وأهدي سبيلا، وأقوم قيلا، لأن دعم غزة هو فريضة الفرائض، وأوجب الواجبات، وهو فريضة الوقت، وواجب اليوم، وإذا كان الخروج من الصلاة الواجبة لتقديم هذا الدعم، وذلك العون، هو أمر أوجبه الإسلام، فكيف يكون الأمر في سنة من سنن الإسلام كالأضحية، فالأولى والأحسن والأفضل تقديم قيمة الأضحية ومثلها من السنن المستحبة كالعقيقة والوليمة والوكيرة، وغير ذلك لأهل غزة لدفع المجاعة القاتلة التي تفتك بهم، ولرفع أثر الحصار الظالم الذي يحيق بهم، ولتخفيف أثر القصف البشع الذي ينزل بهم في كل وقت وحين، ولإفشال مخططات تهجيرهم وطردهم من ديارهم.