بعد مرور أكثر من عقد على محاولات الإصلاح الاقتصادي في السودان، تكشف الأرقام والتقارير الدولية عن واقع مأساوي يتفاقم عامًا بعد عام. فبينما يُغدق الإنفاق العام على المؤسسة العسكرية، تتداعى المدارس، وتغرق الطرق في الحفر، وتُشل المستشفيات، وتظمأ الحقول الزراعية. مشهد يرسم لوحة قاتمة لبلد كان يؤمل فيه أن يتعافى، لكنه استُنزف في صراعات لا تنتهي.
التقارير الأخيرة للبنك الدولي والمنظمات الإنسانية تكشف حجم الانهيار، ليس فقط اقتصادياً بل اجتماعياً وإنسانياً أيضاً، لتُظهر بوضوح الفارق الصارخ بين ما كان يمكن أن يكون، وما آل إليه الواقع السوداني.
أولاً: الإنفاق الحكومي… الجيش أولاً
على مدار السنوات العشر الماضية، استمر نمط ثابت في إدارة الموارد المالية في السودان: الأولوية القصوى للمؤسسة العسكرية. بحسب تقارير دولية متعددة، فإن أكثر من 98% من الإنفاق الحكومي يُوجَّه للجيش والأجهزة الأمنية، بينما لا يتبقى من الميزانية الهزيلة ما يُنفق على قطاعات التعليم أو الصحة أو البنية التحتية أو الزراعة.
في بلد تتراجع فيه معدلات التنمية وتتصاعد فيه معدلات الفقر والنزوح، تبدو هذه المعادلة صادمة بل كارثية، خاصة حين يُنظر إلى التدهور العام في الخدمات الأساسية، مقابل امتلاء الشوارع بالعربات العسكرية.
ثانيًا: قطاع التعليم… جدران تنهار وأحلام تذوي
في الوقت الذي يُفترض أن يكون فيه التعليم أداة للنهوض والتغيير، يعاني السودان من تهالك المدارس وانعدام أدنى مقومات البيئة التعليمية. على مدار عشر سنوات، لم تشهد البنية التحتية التعليمية تطورًا يُذكر، بل تراجعت في كثير من المناطق، لا سيما بعد اندلاع الحرب الأهلية.
العديد من المدارس تحولت إلى مراكز إيواء للنازحين، وأخرى أُغلقت تمامًا بسبب انعدام الأمن، بينما توقف آلاف الأطفال عن الدراسة، ليتحولوا إلى وقود لأزمات جديدة.
ثالثًا: الصحة… عيادات بلا دواء، ومستشفيات بلا أطباء
الواقع الصحي في السودان يلامس حدود الكارثة. فالمستشفيات في العديد من المدن الكبرى تعاني من نقص حاد في الكوادر الطبية والأدوية، فيما تُغلق المراكز الصحية في المناطق الريفية أبوابها تباعًا.
الشلل الطبي لا يقتصر على الحرب الحالية، بل هو نتاج إهمال ممنهج استمر لعشر سنوات، لم تكن فيها الصحة أولوية لأي حكومة متعاقبة. تقارير منظمة الصحة العالمية تشير إلى أن السودان يفقد يومياً أرواحًا يمكن إنقاذها، فقط لأن الخدمات الطبية غير متوفرة أو معطّلة.
رابعًا: الزراعة… الأرض عطشى والمزارع يهاجر
مع أن السودان يمتلك مساحات زراعية شاسعة، إلا أن العطش هو سيد الموقف. تراجع دعم الدولة للقطاع الزراعي، وانعدام البنية التحتية للري، وغياب السياسات التحفيزية للمزارعين، جعل السودان يفقد فرصة أن يكون سلة غذاء حقيقية، لا لنفسه فحسب بل للمنطقة بأسرها.
العديد من المزارعين تركوا أراضيهم، وهاجروا إلى المدن بحثًا عن فرص عمل في الاقتصاد غير الرسمي، أو اضطروا للنزوح بسبب الحرب، ما زاد من الضغوط على الغذاء والإنتاج المحلي.
خامسًا: السياسة الاقتصادية… مسكنات بلا شفاء
منذ 2013 حتى اليوم، لم تُطبق أي خطة اقتصادية شاملة، لا رأسمالية تنموية واضحة، ولا اشتراكية اجتماعية متماسكة. كل الحكومات المتعاقبة اعتمدت على “المسكنات”: تغيير وزير المالية، إعلان برنامج إسعافي، الترويج لخطط وهمية، دون مساس بجذر المشكلة.
والنتيجة؟ تفاقم العجز، تآكل قيمة العملة الوطنية، ارتفاع معدلات التضخم، وزيادة نسبة الفقر. لم يجرؤ أحد على أن يسأل: لماذا نفشل؟ ولماذا لا نضع رؤية اقتصادية طويلة الأمد؟
سادسًا: مأساة اليوم بالأرقام… الجوع والنزوح عنوان المرحلة
تؤكد أحدث تقارير البنك الدولي ما يلي:
- 17.7 مليون سوداني يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد.
- 4.9 مليون شخص على شفا المجاعة.
- 8.6 مليون شخص نزحوا داخليًا بسبب الحرب، ما يجعل السودان أكبر أزمة نزوح في العالم اليوم.
هذه الأرقام لا تعبّر فقط عن أزمة إنسانية حادة، بل عن إخفاق تاريخي في إدارة الدولة والموارد والإنسان.
سابعًا: مقارنة عشر سنوات… الانحدار المستمر
إذا قارنّا وضع السودان اليوم بما كان عليه قبل عشر سنوات، نكتشف أنه لم يكن في موقع جيد أصلًا، لكنه كان يملك فرصة للتحسن. اليوم، تتلاشى تلك الفرصة.
- في 2013، كانت معدلات النزوح الداخلي أقل من 1.5 مليون شخص، واليوم تجاوزت 8.6 مليون.
- في 2013، لم يكن انعدام الأمن الغذائي بهذا العمق، أما اليوم فالجوع يهدد نصف السكان.
- في 2013، كانت البنية التحتية متهالكة، أما اليوم فهي منهارة بالكامل في بعض المناطق.
الفرق الوحيد بين الأمس واليوم هو أن الانهيار أصبح مؤسسيًا، ممنهجًا، ومعترفًا به دوليًا.
لم تعد الأزمة السودانية أزمة “نظام حكم”، بل أزمة “نهج حكم”. بلد يُصرف كل موارده على الحرب ويتجاهل التعليم، الصحة، الزراعة، والمواطن، لا يمكن أن يُرجى له استقرار.
السودان بحاجة إلى ما هو أعمق من تغيير الأشخاص، وأبعد من خطابات السياسيين. بحاجة إلى مراجعة شاملة لمسار الحكم والإدارة. فدولة بلا اقتصاد، بلا إنسان سليم، بلا رؤية… هي دولة تنتظر الانهيار، لا المستقبل.
هل السودان مستعد أن يبدأ من جديد؟ الإجابة لا تزال معلّقة… بانتظار من يملك الشجاعة لا ليحكم، بل ليصلح.