فقيه الهند القاضي مجاهد الإسلام القاسمي (١٩٣٦ – ٢٠٠٢م)
[هذا المقال كان كتب بعد وفاة الشيخ القاضي مجاهد الإسلام القاسمي رحمه الله، ونشر في مجلة: «الصحوة الإسلامية» التي تصدر عن الجامعة الإسلامية دار العلوم حيدر آباد، الهند.
واستميح القراء إعادةَ نشر المقال، فلعل الكثيرين من القراء الشباب يكونون في حاجة إلى الاطلاع على شخصية هذا العالم الجليل الذي يعد من أعلام علماء عصره في الهند.
والمقال ليس على قدر الشخصية، ولكنه -على كل حال- إطلالة سريعة على جوانب بارزة من حياة الشيخ القاسمي رحمه الله وأسكنه فسيح جناته].
* * *
انتقل فقيه الهند وعالمها الكبير فضيلة الشيخ القاضي مجاهد الإسلام القاسمي -رئيس هيئة قانون الأحوال الشخصية الإسلامية لعموم الهندـ إلى رحمة الله بعد صراع مرير ومعاناة طويلة من العديد من الأمراض المزمنة الخطيرة التي لم تُحدِث فيه قط الشعور بالقنوط والإحباط، ولم تفت في عزمه، ولم تضعف همته، ولكن -بالعكس- زاد عطاؤه وعظم نفعه وتضاعف إنتاجه في المجالات العلمية والفقهية والاجتماعية مع ازدياد وطأة الأمراض عليه.
كان الشيخ القاسمي من العلماء الراسخين في العلم، والرجال المحترمين في العالم الإسلامي، ولا شك أن رحيله خسارة كبيرة للأمة، وهي خسارة متعددة الجوانب والنواحي، إنها خسارة المجالس العلمية، والمنتديات الفقهية، والجهود المبذولة من أجل التضامن الإسلامي، ولتوحيد الأمة على أساس «كلمة التوحيد».
لقد رزقه الله من الذكاء الألمعي، والتفقه في الدين، والقدرة الفقهية المتميزة ما جعله شامة بين أقرانه من العلماء الهنود.
أما امتلاكه لناصية البيان وتبريزه في ميدان الخطابة، ونجاحه المثالي الفذ في إقناع المخاطب «بحسن عرضه، وجمال أسلوب حديثه، واستيعاب كلامه لجوانب الموضوع بالبحث والدلائل»، فحدث عن البحر ولا حرج…! فإنه مضمار كان فيه المجلّي، ويكاد فارسه الوحيد الذي لا يجاريه فيه أحد من طبقة العلماء المعاصرين الناطقين بالأردية، وقد كان سماحة الشيخ أبي الحسن الندوي -رحمه الله- يشيد بميزة القاسمي، هذه كل الإشادة قائلا: «إذا تناول الشيخ القاسمي -في حفل أو اجتماع- موضوعًا أشبعه بحثًا وبيانًا، ولم يترك لمتكلم بعده أي شيء يتكلم فيه! لكونه -القاسمي- لا يغادر صغيرة ولا كبيرة من الموضوع إلا ويحصيها ويعطيها حقها من الإيضاح والشرح والإفادة، فإلقاء كلمة -والكلام ما زال للشيخ الندوي- بعد كلمة القاسمي انتقاص لقيمة كلمته وإساءة إليها».
كان الشيخ القاسمي – رحمه الله – من خريجي الجامعة الإسلامية دار العلوم ـدیوبند- وبدأ حياته العلمية مدرسًا في إحدى المدارس الكبرى في ولاية بهار، ثم عمل قاضيًا بالإمارة الشرعية بالولاية، والحقيقة أن عمله في السلك القضائي الشرعي أتاح له الفرصة للاحتكاك بمختلف طبقات الشعب المسلم في جانب، وكشف عن عبقريته القضائية والفقهية وصلاحيته المدهشة لحل القضايا في جانب آخر، إلى أن عرف ولقب بـ: «قاضي صاحب» -القاضي المحترم- وغلب هذا اللقب -الذي حظى به بعمله الطويل الناجح في مجال القضاء- على اسمه، أو صار جزءا من اسمه.
لقد كان الشيخ القاسمي -رحمه الله- من مؤسسي هيئة قانون الأحوال الشخصية الإسلامية لعموم الهند، والجهود التي بذلها من على منبر الهيئة ستسجل بأحرف من النور والخلود في التاريخ، فقد سقى الهيئة -مع أعضائها الآخرين- بجهوده وجهاده، وفكره وتوجيهاته، والتعريف بها عبر الكتابات والخطابات، والرحلات والجولات في طول البلاد وعرضها، حتى أصبحت -بفضل الله، ثم بفضل تعاون جميع الأعضاء فيها- أكبر منظمة إسلامية لها من الوزن والاعتبار والثقل -عند الشعب المسلم الهندي خاصة، وعند جميع مواطني الهند وحكومتها عامة- ما ليس لأي مؤسسة أو منظمة أو جماعة إسلامية أخرى.
ولعله يجدر بالذكر أن الهيئة كانت أسست في ديسمبر ١٩٧٢م، وكان رئيسها الأول فضيلة الشيخ محمد طيب القاسمي – رحمه الله ـ رئيس الجامعة الإسلامية الأسبق لدار العلوم ديوبند، وتمثل الهيئة كافة الجماعات والمنظمات والمسالك والمذاهب الإسلامية في الهند، وتعتبر رصيفًا واحدًا مشتركًا يقف عليه مسلمو الهند صفًّا واحدًا، وحارسًا يقظًا يراقب مهمة الحفاظ على الشريعة الإسلامية في إطار الأحوال الشخصية الإسلامية التي سمح دستور البلاد بالعمل بها، فكلما قامت فتنة أو أثيرت شبهات وشكوك ضد الأحوال الشخصية، انبرت الهيئة ترد -بشدة وقوة- ولكن في الإطار الجمهوري والقانوني – على الشكوك والشبهات المثارة، فقد ردت الهيئة -مثلًا- على الاعتراضات والشبهات المثارة ضد الطلاق، وتعدد الأزواج، ونفقة المطلقة، وأحكام الوراثة، والتبني ردًا مقنعًا، ولا تزال تبذل جهودها وترفع صوتها ضد القانون المدني الموحد الذي تريد الحكومة فرضه على مواطني الهند جميعًا، وكذلك تدافع عن كل قضية لها مساس أو علاقة بالعقيدة أو الشريعة أو الحرمة الإسلامية، وتلعب دورًا مهمًا في توعية المسلمين بأحكام دينهم وحثهم على الالتزام بمقتضياته عبر الاجتماعات الدينية، وخطب الجمعة، والكتيبات والمنشورات الإسلامية.
ويكفي الفقيد القاسمي فخرًا وشرفًا أنه كان اختير رئيسًا لهذه الهيئة الموقرة خلفًا لسماحة الشيخ الندوي -رحمه الله- الذي كان رئيسها الثاني، مما يدل على مكانة القاسمي وتمتعه باحترام وثقة العلماء والمثقفين وجميع فئات الشعب الهندي المسلم!
حينما نحيت حكومة «البيض» السوداء العنصرية بأفريقيا الجنوبية، شكلت هناك لجنة كلفت بوضع القوانين الإسلامية المتعلقة بالأحوال الشخصية، وقد اختير الشيخ القاسمي رئيسًا لهذه اللجنة، لكونه صاحب الباع الطويل والخبرة والحنكة القضائية وتمكنه من الفقه.
ومن مآثر الفقيد العلمية قيامه بتأسيس المجمع الفقهي الهندي (عام ۱۹۸۹م) الذي لا ينكر فضله في تكوين جو علمي، وإحداث «صحوة فقهية» -حسب تعبير بعض الفضلاءـ وإحداث رغبة شديدة في البحث والاطلاع والعكوف على الدراسة والتحقيق والمطالعة في أوساط المدارس والدور التعليمية، فقد تخرج في ندوات المجمع الفقهية الدورية ـالتي تنعقد مرتين في العام- جماعة من العلماء الباحثين المحققين الشباب والكوادر العلمية المدربة على أسلوب معالجة القضايا الحيوية المستجدة، فقد كانت مجالس المجمع الدورية -ولا تزال- منتديات علمية محضة يشرفها صفوة ممتازة من رجال العلم والفكر وأصحاب الفقه والإفتاء والقضاء – بالإضافة إلى مشاركة العديد من الباحثين المثقفين بالثقافة العصرية. من داخل الهند وخارجها، وكان الشيخ القاسمي يدير ندوات المجمع بلباقة وبراعة، ويدهش المشاركين -وكلهم فضلاء متخصصون- بغزارة علمه وسعة اطلاعه على المصادر والمراجع واستحضاره للمسائل والدلائل، وحسن معالجته للقضايا المطروحة على جدول الأعمال وأسلوب نقاشه بجدية ورزانة وثقة العالم وعلم الواثق المتخصص!
هذا. وتعد أعداد مجلة «بحث ونظر» الأردية، الناطقة باسم المجمع، وكذلك منشورات المجمع الأخرى تعد وثائق علمية نفيسة قيمة في الفقه والإفتاء بصفة خاصة تستحق أن يقتنيها المشتغلون بالفتيا والفقه ورجال العلم والبحث.
وقد أثرى الراحل الكبير المكتبة الإسلامية بعشرات من الكتب العلمية التي دبجها يراعه، أو ألفت، أو حققت أو نقلت من العربية إلى الأردية تحت إشرافه، فمن ميراث «القاسمي» العلمي الضخم الذي خلفه لرجال العلم: «إسلامي عدالت» -نظام القضاء في الإسلام- قضايا فقهية معاصرة -فقه المشكلات- تحقيق: صنوان القضاء وعنوان الإفتاء -الذبائح- فتاوى الإمارة الشرعية -ترجمة: الموسوعة الفقهية الكويتية- وغيرها.
لم يكن الشيخ القاسمي رجل علم وفقه فحسب، فقد تنوعت اهتماماته وتعددت نشاطاته، فكان يعيش هموم المسلمين وآلامهم، وكانت تقلقه الظروف الحرجة التي تمر بها الأمة في شتى بقاع الأرض، ولا يدخر وسعًا في حل قضاياها، والنهوض بالمسلمين تعليميًّا واقتصاديًّا، وقد قام بتأسيس العديد من المدارس والمعاهد العلمية والتدريبية لأبناء المسلمين.
والحقيقة أن رحيل شخصية متعددة المواهب والنشاطات والخدمات كشخصية القاسمي خسارة أي خسارة للمسلمين في الهند، وثغرة واسعة لا تملأ إلا إذا تداركت رحمة الله بالمسلمين.
نسأل الله سبحانه أن يغفر للشيخ القاسمي زلاته، ويكرم نزله، ويلهم أهله وذويه الصبر والسلوان ويسد – بفضله – الفراغ الهائل الذي حدث بموته.
وإنا لله وإنا إليه راجعون!
(الاثنين: ٢٥ من شعبان ١٤٤٦ ھ = ٢٤ من فبراير – شباط – ٢٠٢٥م).