تعدُّ الكعبة أوَّل بيت وضع للناس على الإطلاق، إذ كان وجودها مقرونًا بوجود آدم وزوجه على هذه الأرض؛ قال تعالى:
((إِنَّ أَوَّلَ بَيتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدى لِّلعَالَمِينَ))، آل عمران: 96. وهذا الاسم “بكَّة” لم يرد في أيِّ مقام إلَّا في هذا المقام الذي يشير إلى قدم هذا البيت، وفي هذا تنبيه لليهود وهم أعظم أمَّة بعد الأمَّة المحمَّدية اتِّباعًا للرسالة، لأنَّ هذا الاسم وارد لديهم في التوراة بهذا اللفظ “بكَّة”.
وقد شرَّف الله تعالى نبيه إبراهيم -عليه السلام، وابنه إسماعيل -عليه السلام، بإعادة بناء هذا البيت، وأخبر تعالى بذلك: ((وَإِذ يَرْفَعُ إِبرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيتِ وَإِسمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّل مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ))، البقرة: 127، وذلك بعد أن ترك زوجه وابنه عند البيت قبل بنائه: ((رَّبَّنَا إِنِّي أَسكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيرِ ذِي زَرعٍ عِندَ بَيتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجعَلْ أَفئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهوِي إِلَيهِم وَارزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُم يَشْكُرُونَ))، (37) إبراهيم: 37. فدلَّه الله عليه وأرشده إلى مكانه بعد أن اندثر وعفى عليه الأثر، قال تعالى: ((وَإِذ بَوَّأْنَا لِإِبرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيتِ أَنْ لَا تُشرِكْ بِي شَيئًا وَطَهِّر بَيتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ))، الحج: 26.
ولـمَّا كانت الكعبة معروفة للمؤمنين مِن بني إسرائيل، مِن يهود ونصارى، فقد استوطنوا جزيرة العرب، في الحجاز، وقدَّموا لها هداياهم ونذرهم، لهذا اشتملت الكعبة كما جاء في كتب السير على صور وتماثيل لعيسى ابن مريم وأمَّه، عليهما السلام، وصلبان، مِن الذهب والفضَّة، وكانوا يرون أنَّ خاتم الرسل قد أظلَّ زمانه، وأنَّه سيخرج في جبال “فاران”، وهي جبال الحجاز المحيطة بمكَّة. والعالمون بكتب اليهود والنصارى يذكرون أنَّ هناك حديثًا عن مكَّة وزمزم، وعن قداستها وبركتها، في ثنايا تلك الكتب.
وقد غرس إبراهيم وأبناؤه جيلًا بعد جيل في نفوس ذريَّتهم التوحيد والعبادة والصلاة والزكاة والصيام والحج، يقول تعالى: ((وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالحَجِّ يَأتُوكَ رِجَالًا وعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ))، الحج: 27. وجميع الأنبياء الذين أتوا مِن بعده مِن ذرِّيته كانوا على علم بمكانة مكَّة وضرورة الحجِّ إليها، وقد جاء في صحيح مسلم (166)، أنَّ رسول الله -صلَّى اللَّه عليه وسلَّم- مرَّ بوادي الأزرَقِ، فقال: (أيُّ وادٍ هذا؟)، فقالوا: هذا وادي الأزرَقِ. قال: (كأَنِّي أنظُرُ إلى موسى -عليه السَّلام- هابِطًا مِن الثَّنِيَّةِ، وله جُؤارٌ إلى اللهِ بالتَّلبِيَةِ). ثُمَّ أتى على ثَنِيَّةِ هَرشَى، فقال: (أيُّ ثَنِيَّةٍ هذِه؟)، قالوا: ثَنِيَّةُ هَرشَى. قال: (كَأَنِّي أنظُرُ إلى يُونُسَ بنِ مَتَّى -عليه السَّلام، على ناقة حَمراءَ جَعدَةٍ، عليه جُبَّةٌ مِن صُوفٍ، خِطامُ ناقَتِهِ خُلبَةٌ، وهو يُلَبِّي). وقد ظلَّ بنو إسماعيل -عليه السلام- مقيمين حول الكعبة يقومون بواجب ضيوف الرحمن، قال تعالى: ((وَإِذ جَعَلنَا البَيتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمنًا وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدنَا إِلَىٰ إِبرَاهِيمَ وَإِسمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ))، البقرة: 125.
وبدهي جدًّا، أنَّ الخطَّين الإسحاقي والإسماعيلي، مِن ذرِّية إبراهيم، كانوا يعلمون مكانة الكعبة والمسجد الحرام ومكانة بيت المقدس والمسجد الأقصى، إذ هما فرعا التوحيد الجامع بين الشام والحجاز، إذ استوطن إبراهيم فلسطين ومات بها.
وعليه، فإنَّ ملك سليمان -عليه السلام- الذي امتدَّ مِن فلسطين وحتَّى اليمن شمل فيما شمل ضرورة مكَّة المكرمة، وهذا يتطلَّب مِنه بناء المسجد الحرام على أحسن هيئة لاستقبال الحجيج في دولة التوحيد تلك تحقيقًا لتكليف الله لإبراهيم وإسماعيل وكلِّ مَن يأتي بعدهما بعمارة المسجد الحرام رعاية لمكانته، وإبرازًا لمنزلته، وتعظيمًا لقداسته، وخدمة لقاصديه. خصوصًا وأنَّ الله تعالى سخَّر لسليمان الإنس والجنَّ، فوظَّف الجنُّ قدراتهم لتشييد ما يأمرهم به على أجمل وأبلغ وأعظم ما يكون.
ومِن ثمَّ “فهيكل سليمان” المنشود لدى اليهود هيكل حقيقي، لكنَّهم أضلُّوه كما هي عادتهم، نتيجة التحريفات الآثمة والتأويلات الفاسدة، وهو “الكعبة” التي بناها إبراهيم -عليه السلام. إذ أنَّ الكعبة جرى تجديد بنائها عدَّة مرَّات، قبل الإسلام وبعده، فيكون سليمان -عليه السلام- أحد مجدِّدي بناء الكعبة والمسجد الحرام، إذ لا يتصوَّر أن تقوم له مملكة عظيمة البنيان وتضمُّ مكَّة فيما تضمُّ مِن سلطانه، فلا يعمرها بأفضل ما يمكنه مِن عمران، وهي ميراث جدِّه إبراهيم. خصوصًا أنَّ مكَّة في ظلِّ قيام دولة التوحيد “السليمانية” ستحظى بإقبال الحجيج المؤمنين مِن كلِّ أنحاء تلك المملكة والبلدان التي بلغها التوحيد مِن ورائها.
والله أعلم.