طالبني بعض الدعاة والعلماء الثقات الغيورين على الأمة والدين -من القابضين على الجمر في فلسطين- بالترفق فيما أطرحه في الشأن السوري، وأقول:
جزى الله كل مسلم غيور على التجربة الإسلامية الواعدة في أرض الشام المباركة، وهذا دلالة الإيمان والانتماء.
إن الإنسان مفطور على الغيرة والحرص على أولاده جميعا، ولكن القلق والحب والحرص والرعاية والحماية التي يوليها الوالدين لمولودهما الجديد الذي جاء بعد رحلة عذاب طويل، مختلف عن كل أشكال الرعاية، ومحله اليوم الثورة والتجربة والدولة السورية التي يتطلع إليها كل مسلم غيور، لاسيما إذا كان من أصحاب التجارب الإسلامية والثورية الموجعة والمريرة -كما هو حالنا-.
إن ما تشهده المسألة السورية من هزات واهتزاز أمر طبيعي لمشروع إسلامي يسعى للإنعتاق السياسي من الهيمنة الغربية، لاسيما بعد فشل كل الحركات الإسلامية، والدول العربية والإسلامية -رغم نجاح نسبي يحسب لتركيا أربكان وأردوغان- في تحقيق هذا الإنعتاق، الواجب كشرط للنهضة وأمن البلاد وعز العباد.
وأقول:
في ظل التهديدات الخارجية والتحديات الداخلية لا يمكن القفز عن واجب الوقت في تحقيق وحدة الصف الجماهيرية خلف إطار الدولة الجديدة، وعدم السماح بخلق فجوة -مطلوبة ومستهدفة غربيا وعربيا رسميا- بين الشعب وحكامه، الأمر الذي إن حصل فسيكون نقطة استنزاف تزهق مشروع البناء وتسمح بولوج الأعداء.
فما هي الوسيلة والمحل والمادة التي تحقق الوحدة بين الشعب وحكامه، في ظل تحديات جسام يفرضها الغرب الصليبي والمشاريع المؤثرة في المنطقة؟
الجواب يكمن في اللاءات التي يجب أن ينطق بها مجموع الشعب السوري ونخبه، وتتبناها الحكومة السورية انتقالية مؤقتة كانت أم دائمة، طالما منحت نفسها حق التقرير داخليا وخارجيا.
ومن المهم أن تشارك النخب العربية والإسلامية في بلورة تلك اللاءات السورية، لاسيما وأن حاضر سورية سيرسم مستقبل المنطقة العربية وتركيا وعموم الجغرافيا الشرق أوسطية.
وعلى سبيل المثال لا الحصر أضع أول اللاءات السورية الواجبة وهي:
1/ لا للتطبيع مع إسرائيل ولا اتفاقيات ابراهام.
2/ لا لتقسيم سورية بأي صورة من الصور السياسية أو الإدارية في الحكم.
3/ لا لعلمنة الدستور ولا الأسرة ولا التعليم.
4/ لا لإعادة تموضع رجالات النظام السابق وذويهم في مفاصل الدولة الرئيسية.
5/ لا للتدخل في الشأن السوري وفرض الوصاية عليه.
6/ لا للمس بهوية سورية العربية والإسلامية.
7/ لا لتحويل سورية إلى نموذج اقتصادي نيوليبرالي يمزق المجتمع ويلغي كل قيمه ويحصر فاعليته وخياراته بأيدي رجال المال والشركات الدولية.
8/ لا للاستبداد السياسي في الحكم، ولا للسجون السياسية.
… والقائمة تطول وتحتاج نقاشا نخبويا جماهيريا ليبلور اللاءات التي لا يستطيع تجاوزها أي نظام وحاكم انتقالي أو منتخب أو دائم.
علامة فارقة في المشهد السوري.
من الواجب الإشادة بالحراك الجماهيري السوري في حادثتين ترسمان صورة الثورة التي تجسدت بولادة جيل جديد يستحق التطوير والبناء والرعاية، وذلك من قبل حركات التغيير، وكذلك حكام سورية المخلصين والمنتمين.
الحادثة الأولى:
خروج الجماهير بشكل عفوي لمواجهة انقلاب فلول النظام في الساحل، ومواجهة حراك الخونة المتصهينين في السويداء.
الحادثة الثانية:
التصدي الجماهيري للمسار الحكومي في التعامل القاصر والمختل في مسألة العدالة الإنتقالية، والتموضع المحتمل لرجالات نظام الأسد في مفاصل الدولة بإيعاز خارجي.
ويمكن القول أن الثورة قد حققت نجاحا كبيرا، حيث لم يعد الشعب السوري يقاد كالقطيع.
أما رسالتي لحكام سورية الجدد فأقول:
إن الاستقرار الذي يشكل أرضية البناء لا تبنيه التحالفات والعلاقات والتفاهمات الخارجية -وإن خدمته-، بل إن مواجهة التحديات الداخلية والتهديدات الخارجية بروح جماعية تجمع بين الحكام والشعب هو ما يحقق صورة الصف الواحد الموجبة للنصر.
أما رسالتي للأخ الرئيس الانتقالي أحمد الشرع فأقول له بوضوح لا تكن كالسادات ولا كياسر عرفات!
لقد قتل الرئيس المصري والفلسطيني بعدما أحدث منعرجا سياسيا يشكل مطلبا لأمريكا والغرب، ثم تم التخلص منه، ليبدأ بعدها مسار جديد يتجاوز المنعرج السيء لمستقبل قبيح.
وكما خدم السادات المشروع الأمريكي الصهيوني بإخراج الثقل العربي من معادلة التصدي للمشروع الصهيوني الذي يستهدف الجميع وقاعدته أرض فلسطين، فقد سار على نهجه ياسر عرفات فحقق لإسرائيل ما تريد، ومنحها معظم أرض فلسطين، وفتح الباب أمام التطبيع العربي الإسرائيلي الذي صاغ بيديه لبناته الأولى!
حكاية ياسر عرفات الأكثر تطابقاً مع سيناريو أمريكا في التعامل مع أحمد الشرع!
فما هي حكاية ياسر عرفات وأين هو وجه الشبه مع قفزات أحمد الشرع؟
حكاية ياسر عرفات وسيناريو أمريكا مع أحمد الشرع.
لأن حكاية ومسار ياسر عرفات مهم للغاية، ويشبه بشكل فظيع تجربة هيئة تحرير الشام في منعرجها الأخير، ووجه الشبه يكمن فيما يرومه الغرب وتعرضه الإدارة الأمريكية على أحمد الشرع، فسأحكي لكم الحكاية باختصار وتركيز شديد، ليتم الاعتبار، ولا تتكرر الأخطاء، ولتتقى الأخطار، ولئلا تسقط سورية في الهاوية!
وسأبدأ من النهاية وأرجع للبداية..
اغتيال ومقتل الرئيس أحمد الشرع!
كما قتل الرئيس المصري محمد أنور السادات عقب توقيع اتفاقية كامب ديفيد والصلح مع إسرائيل، قتل ياسر عرفات عقب إنجازه لاتفاق أوسلو الآثم الذي شكل منعرجا حرف المسار الفلسطيني والعربي بالكلية، والغريب أن الطرف الأمريكي هو من هندس الاتفاقيتين وكان دوره المعلن أنه الضامن!
تقلبات مريبة متناقضة وسريعة!
أيد ياسر عرفات صدام حسين في اجتياحه للكويت بشكل مفتئت على منظمة التحرير وقرار منفرد -وخالفه أبواياد في ذلك ففر ليلا من بغداد الى تونس حيث قتل لاحقا فيها-، وما أن غرق العراق في فخ أمريكا في الكويت، حتى بدل ياسر عرفات وجهته وانقلب رأسا على عقب!
من كسر الحدود العربية الدولية إلى حضن العدو الإسرائيلي!
خالف ياسر عرفات الإجماع العربي الرسمي وذهب مع صدام في معركته السياسية والعسكرية في الكويت -المرعية أمريكيا- عام 1990، ثم فاجأ الجميع -بعدما قصف صدام حسين إسرائيل بالصواريخ- وقبل بفكرة السلام العربي الإسرائيلي، والتي تجسدت خطواتها الأولى في مؤتمر مدريد 1991، وحضره وفد فلسطيني أردني مشترك آنذاك!
من مفاوضات واشنطن المعلنة إلى اتفاق أوسلو السري والمنفرد!
في الوقت الذي تشكل فيه الوفد الفلسطيني المفاوض برعاية ياسر عرفات والاتفاق معه للتفاوض مع الأمريكان في واشنطن حول اتفاقية سلام مع إسرائيل، وكان على رأس الوفد الدكتور حيدر عبد الشافي وحنان عشراوي وصائب عريقات -وجميعهم شخصيات وطنية- حيث أجروا لقاءات مكوكية مع الإدارة الأمريكية، كان ياسر عرفات يبني بالخلف اتفاقا منفردا مع الإسرائيليين برعاية الأمريكان في أوسلو -دون دراية ولا اطلاع من قبل الفريق الفلسطيني الرسمي المفاوض في واشنطن- حيث وقعه لاحقا محمود عباس واسحاق رابين!
عرفات من ارهابي دولي إلى رئيس في رام الله برعاية أمريكية دولية!
سمحت أمريكا لقائد منظمة التحرير الفلسطينية والمسؤول عن معارك مع إسرائيل قتل فيها جنود إسرائيليون وأمريكيون، بالدخول إلى غزة ورام الله، وبنوا له مؤسسات سلطة في الضفة وغزة، إضافة لمطار، وكانوا هم الضامنون لتنفيذ الاتفاق مع الخصم الإسرائيلي!
لم تلبث أمريكا أن سحبت يدها، بعد أن أرهقت الفلسطينيين دون طائل، وبات الطرف الإسرائيلي هو من يصنع الوقائع!
ياسر عرفات وشجاعة التراجع والاغتيال!
ما أن رجع ياسر عرفات من كامب ديفيد، بعد أن غضب عليه كلينتون وإيهود باراك، حين رفض أي تسوية حول دولة شبه كاملة في الضفة وغزة مقابل التوقيع على القدس أو جزء منها عام 2000، حتى انقلب الضامن الأمريكي إلى حليف اسرائيل المعلن، وتغير الحال!
علم ياسر عرفات بأنه قد وقع بالفخ وتم خداعه، ولم يحفظ مساره وسلطته وجود مشاركة دولية غربية في اتفاق أوسلو ومؤتمر مدريد من قبل، فقرر أن يعود إلى سابق عهده واستجلب آلاف الصواريخ عبر البحر بإشراف أمين سره فؤاد الشوبكي الذي أشرف على سفينة كارين إيه بعد أن حملها بخمسين طن من الصواريخ والمقذوفات عام 2002، وكان مقررا أن يفرغ نصف حمولتها في غزة ويضعها بين يدي حماس، والنصف الآخر ينقل للضفة حيث كتائب شهداء الأقصى، كما أوعز لمروان البرغوثي بإطلاق انتفاضة جديدة.
عاجلت اسرائيل ياسر عرفات وهيمنت على الباخرة في المياه الإقليمية وسجنت العقيد فؤاد الشوبكي، ثم اعتقلت مروان البرغوثي، وأعطت أمريكا الضوء الأخضر لإسرائيل بتدمير كل مؤسسات السلطة الفلسطينية ومطار غزة، دون أي اعتبار لرأي دول الإتحاد الأوروبي المانحة للأموال التي بنيت بها مؤسسات السلطة!
أمريكا تعزل ياسر عرفات ثم تجيز قتله!
عزلت أمريكا ياسر عرفات سياسيا، وذلك بعد أن حاصره الإسرائيليون في مقره بالمقاطعة، حتى تم تسميمه وقتله، وأغلق الملف!
ياسر عرفات يوازي ألفا من أحمد الشرع.
إن قدرات ودهاء وعلاقات ونضال ولقاءات وخبرات ياسر عرفات لا تقارن بقدرات وخبرات وعمر أحمد الشرع، لاسيما وأنه ابن حالة جهادية، وفقير سياسيا، إضافة لانعدام علاقاته الطبيعية نتيجة انتماءاته الأولى، وعدم اكتسابه أي شرعية خلال الثورة.
وإذا كان ياسر عرفات الداهية ومن ملك علاقات عميقة عربية ودولية قد خدعه وقتله الأمريكان وأفشلوا القضية، فإن أحمد الشرع لن يأخذ مع الأمريكان مقدار غلوة قهوة، فلماذا يتجاوز ويذهب للتفاهم مع الإدارة الأمريكية حول المسألة الإسرائيلية، فيما لديه أقوى ورقة صمود شعبية؟
