الأمة: يقول الدكتور بكر إسماعيل سفير جمهورية كوسوفا في القاهرة -وهي جمهورية إسلامية و احدي جمهوريات البلقان جنوب شرق أوربا – بمناسبة حلول الذكرى السابعة والعشرين لرحيل العالم الرباني، إمام الدعاة، فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي (1911–1998م)
لقد غادر شيخنا دنيانا في 17 يونيو 1998م، وقد تركً وراءه إرثًا دعويًا وعلميًا خالدًا.
ويتابع د. بكر إسماعيل قائلا : لقد كان رحمه الله عَلَمًا من أعلام الفكر الإسلامي، ورائدًا في تفسير القرآن الكريم بلغة عصرية بسيطة، استطاع بها أن يصل إلى قلوب الملايين في العالمين العربي والإسلامي.
وقد ناضل الشيخ –رحمه الله– نضالًا عظيمًا من أجل قضايا العالم الإسلامي، ومواقفه في ذلك مشهودة لا تُنسى.
وتحمل عبء الدعوة إلى الإسلام بصدق، وقدَّمه في صورته الصحيحة النقية، فاستحوذ على قلوب العامة والخاصة.
وها نحن اليوم نحيي ذكرى رحيل هذا الشيخ الجليل، الذي يندر أن يجود الزمان بمثله؛ فهو إمام الدعاة، ونبراس المهتدين، وعالم العلماء العاملين، ظاهر البيان، قوي الحجة والبرهان، رفيع المنزلة.
رحل جسده، لكن فكره وعلمه ظلا خالدين، وذكراه العطرة باقية في قلوب وعقول مَن عرفه أو سمع به.
لقد ملأ الشيخ الشعراوي أسماع الناس وقلوبهم بحكمته، وترك أثرًا لا ينضب. وكان سر تعلُّق الجماهير به يعود إلى لغته الصافية، وفهمه العميق لأسلوب القرآن الكريم.
وموهبته الفذة في التوصيل، وحكمته التي هي من أجل نعم الله، كما قال تعالى: «يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا» (البقرة: 269).
كان عالمًا استولى على القلوب بإخلاصه، وسلطان علمه، وجلال الحق في كلماته، التي دخلت من أوسع الأبواب: باب القرآن الكريم.
وأدى الشيخ رسالته الدعوية على مدى نصف قرن، مجاهدًا في سبيل إعلاء كلمة الله، شارحًا الإسلام بمفاهيمه الصحيحة، ومفسرًا القرآن الكريم بأسلوب فريد جذاب.
وقد أنعم الله عليه به بنور البصيرة والحكمة. كان –رحمه الله– جيلًا كاملًا من العلماء الذين تمسكوا بالعلم في تواضع وتجرد، ووثقوا صلتهم بالله، فكان حديثه رحيقًا يفيض من نبعي العلم والتقوى.
لم يكن يعدّ حديثه أو يرتب خواطره، بل كان البيان يتدفق على لسانه كالنبع العذب، فتتفتح أكمام المعاني، وتنجلي أسرار القرآن، وتنكشف دقائق اللغة بسلاسة وعذوبة.
كان صادق اللهجة، مطمئن الصلة بربه، فكان الإلهام والتأثير، وكان العلم المتصل بالتقوى، مصداقًا لقوله تعالى: «وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ» (البقرة: 282).
عندما كان يفسر القرآن ويكشف جمالياته، كانت اللغة في بيانه تزهو جمالًا ودلالة، متأنقة متدفقة. ولعل سر ذلك يعود إلى كونه شاعرًا قبل أن يكون مفسرًا أو محدثًا.
فأضفى على تفسيره روح الفن وجمال البساطة والفطرة، مما قربه من قلوب الناس. نعم، أيها العارف بالله، لقد فقدنا بفقدك ركنًا ركينًا كنا نستند إليه، وحضنًا دافئًا كان يخفف آلامنا وهمومنا.
أنه الرجل التقي الذي أرشدنا إلى طريق النجاة، حين أغرقتنا الحياة في دواماتها، جئت تنبهنا من غفلتنا. لقد تغلغل حبك في النفوس، واختلط بالدماء.
فكان فراقك جرحًا في الأفئدة. لكنك تركت لنا المثل الأعلى في القول والعمل، فليظل علمك وفكرك نبراسًا يضيء الدرب.
إن العين لتدمع، والقلب ليخشع، ونحن نردد بثبات: «إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ»، سائلين المولى أن يجمعنا بك في دار البقاء.
لم تكن مسيرة الشيخ الشعراوي مجرد محطات أكاديمية، بل مشروعًا فكريًا ألهم الباحثين.
وفي هذا الإطار، يأتي كتاب “فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي ودوره في خدمة قضية كوسوفا” – ضمن سلسلة “كوسوفا واتجاهات الفكر المعاصر”- للأستاذ الدكتور بكر إسماعيل الكوسوفي،
ليلقي الضوء على حياته العلمية والفكرية، مبرزًا جوانب من سيرته ونتاجه العلمي، ودوره في خدمة قضايا العالم الإسلامي عمومًا، وقضية كوسوفا خصوصًا.
دعتني إلى الكتابة عن الشيخ أسباب عدة، أبرزها نشر فكره والتعريف به لدى الألبان في البلقان،التي تقع جنوب شرق اوربا نظرًا لإعجابهم بشخصيته وفكره.
لقد هيأ الله للدعوة الإسلامية في كل عصر مَن يحمل لوائها، وكان الشيخ الشعراوي من أبرز هؤلاء في عصرنا، حيث بذل جهودًا جبارة في نشر الوعي الإسلامي ودحض الأفكار الهدامة.
وساهم الشيخ بنصيب وافر في خدمة الأمة، خاصة في الدعوة والوعظ، فكان نموذجًا للشخصية الإسلامية المناضلة، سليمة العقيدة، واسعة الأفق.
التي كرست حياتها للدفاع عن الإسلام داخل مصر وخارجها، فأصبح رمزًا للصحوة الإسلامية.
كان الشيخ –رحمه الله– من خريجي كلية اللغة العربية بالأزهر، وهي ميزة أعانته على فهم العلوم الإسلامية فهمًا عميقًا، إذ مَن أتقن اللغة أدرك حقيقة الإسلام ومنهجه في الحياة بجميع جوانبها.
وصدق رسول الله ﷺ حين قال: «إن من البيان لسحرًا». وهكذا كان الشعراوي داعية الإسلام الأكبر، الذي نفع الله بعلمه المسلمين في كل مكان، بفهمه الدقيق للنصوص القرآنية وبلاغتها.
زار الشيخ العديد من البلدان داعيًا إلى الإسلام، ثم استقر في القاهرة ليقدم تفسيره للقرآن، الذي أقبل عليه الناس إقبالًا غير مسبوق.
وكان من أكثر العلماء اهتمامًا بالسياسة، وفطنًا لخباياها، كما ظهر في خطابه الشهير بالأمم المتحدة عام 1983.
حيث دعا إلى السلام والإخاء الإنساني، مقنعًا غير المسلمين بصلاحية الإسلام لكل زمان ومكان.
لقد شغلت قضايا المسلمين جزءًا كبيرًا من اهتماماته، فكان يثيرها في كل محفل، مما ترك أثرًا عميقًا في حياة المسلمين حول العالم.
أحبه الصغير والكبير، وانتشرت كتبه وتسجيلاته في الآفاق. رحل الشيخ، لكن فراغه ما زال محسوسًا، ونحن ندعو الله أن يبعث لنا من يحمل راية الدعوة بنفس الحكمة والبلاغة.
إمام الدعاة يا شعراوي..
قصيدة للأستاذ الدكتور بكر إسماعيل الكوسوفي:
يا إمامَ الدعاةِ، حديثُك نورُ
في رحابِ البيانِ يزهو الحضورُ
وهبتَ القلوبَ صفاءَ المعاني
فاستقامَ بعلمِك كلُّ الأمورُ
سرتَ في دربِ الحقِّ شمسًا مُضيئةً
يهتدي بنورِها كلُّ غيورِ
علَّمتَ الناسَ أنَّ العمرَ رحلةٌ
كلُّ دربٍ إلى اللهِ فيه سرورُ
ما رضيتَ بحالٍ سوى رفعِ دينِنا
فجهادُك للإسلام عزٌّ ونورُ
إن ذكراكَ في القلبِ نبعٌ طهورُ
يسقي الأرواحَ إن عزَّ الزهورُ
أنتَ مَن قال: “لا تقلقوا من التدبيرِ
فالحقُّ نافذٌ، وربُّ الأمورِ”
ورحلتَ، لكنَّ علمَك باقٍ
يملأُ الكونَ سحرًا وضياءً وعبيرُ