لم تعد أكياس الطحين بيضاء كما نعرفها، بل تحوّلت إلى رمادٍ مضرّج بالدم، ففي غزة، حيث يفترض أن يُحمل الطحين لإنقاذ الأرواح، يُحمل الآن على الأكتاف لتكفين الشهداء، أكياس مكتوبٌ عليها “هبة إنسانية” باتت تنزف مع الأطفال والنساء تحت ركام البيوت، إنها أغلى أكياس طحين في العالم – لا لأن قيمتها ارتفعت، بل لأنها ارتفعت على جثث الجوعى، وضحايا الحصار، والمحرومين من الحق في الحياة، من ألة قتل صهيونية لاتعرف من كلمة الرحمة حرفا واحدا.
الطحين صار رمزًا للموت لا للغذاء
منذ اندلاع العدوان الإسرائيلي على غزة، تكررت مشاهد سكان يركضون خلف شاحنات مساعدات في لحظات ذعر، فقط من أجل كيس طحين، وفي فبراير 2024، حين أطلقت إسرائيل النار على مئات المدنيين المنتظرين مساعدات شمال غزة، سُجلت أكبر مجزرة غذائية في العصر الحديث، وقال الحقوقي الفلسطيني شريف شُريدة: “الطحين في غزة يُوزع بالرصاص. لم نعد نأكله… نُدفن تحته.”
أغلى كيس طحين بالعالم.. بثمن أرواح
في الأسواق السوداء داخل غزة، وصل سعر كيس الطحين في أوقات الحصار إلى أكثر من 200 دولار، والأخطر أن منظمات الإغاثة لم تتمكن من الوصول، إلا بشق الأنفس، وتحت تهديدات قصف مباشر، ويقول مايكل فاينشتاين، الباحث في الشؤون الإنسانية بجامعة كولومبيا: “إذا كان هناك جائزة نوبل للعار، فهي لأولئك الذين يشاهدون كيس الطحين يُخطف من بين أيدي الجوعى تحت نيران طائرات حربية، ولا يتكلمون.”
صمت العالم… تواطؤ لا حياد
لم تصدر الأمم المتحدة سوى بيانات “قلق”، بينما تموت غزة من الجوع، تقول الناشطة الحقوقية سارة واينبرغ، من منظمة هيومن رايتس ووتش: “الصمت ليس حيادًا.. الصمت تواطؤ، وما يحدث في غزة إبادة غذائية، تستهدف الجسد والكرامة معًا.”
وفي موقف نادر، وصف المقرر الأممي السابق لحقوق الغذاء، جان زيغلر، ما يحدث في غزة بأنه: “جريمة إبادة عبر التجويع، تحوّل الغذاء من حق إلى سلاح.”
صور لا تُنسى.. طحين مخضب بالدم
انتشرت صورة طفل في شمال غزة، يحتضن كيس طحين أكبر من جسده، يملؤه ثقوب الرصاص، وقد تناثر عليه دم أخيه الشهيد.
هذه الصورة لم تنشرها فقط صحف عربية، بل وصلت إلى صحيفة “الغارديان” البريطانية التي عنونت تقريرها: “الخبز الممنوع: عندما يتحول القمح إلى موت.”
علماء الاجتماع: الطحين صار شهادة هوية
يرى الدكتور إدوارد سعيد جونيور، أستاذ علم الاجتماع في جامعة جورج تاون، أن الطحين في غزة أصبح “رمزًا سياسيًا وثقافيًا” ففي العادة، الطحين يُخزّن في السقوف، أما في غزة، فهو مدفون تحت الركام، مختلطًا بلحم البشر.”
أما الدكتورة منى الطحاوي، الكاتبة النسوية المعروفة، فقالت: “حين تُجبر أمّ على الاختيار بين كيس طحين وبقاء أطفالها تحت القصف، فنحن لسنا في حرب، نحن في انهيار كامل للإنسانية.”
هل يبقى الطحين وسيلة حياة أم شهادة وفاة؟
رغم كل هذا، لا تزال قوافل الإغاثة تُرسل – وإن قُطعت أو قُصفت – وفي كل مرة يسقط شهيد جديد فوق كيس جديد.
قال الناشط في الهلال الأحمر، عبد الله كنعان:”كل كيس طحين يصلنا… نكتبه بالدم، ونأكله بالبكاء.”
النداء الأخير
لم يعد الطحين في غزة مجرد غذاء… لقد صار دليلًا ماديًا على الجريمة، في كل كيس قمح دم طفل، وفي كل شحنة مساعدات صرخة أمّ فقدت رضيعها من الجوع، أوقفوا تجويع غزة، أوقفوا قتلها تحت شعارات الإغاثة. أوقفوا حرب الطحين.