في قلب الجبال الشامخة والسهول الواسعة، وفي ظل حضارات تعاقبت على أرضٍ عرفت الحرب كما عرفت الشعر، وذاقت مرارة الغزو كما رأت ازدهار العلم والدين، نشأ الأدب الأفغاني كجذع شجرةٍ صلب، امتد في الأرض، وتشعب في لغات وثقافات متعددة، لكنه ظل يحمل روحًا واحدة: الإنسان الأفغاني، الباحث عن المعنى بين ركام الأيام.
المهاد القديم: إرث الحكمة والملحمة
الأدب في أفغانستان ليس وليد عصرٍ حديث، بل يمتد إلى قرونٍ ضاربة في أعماق التاريخ، حين كانت تلك الأرض تُعرف بجزء من “خراسان الكبرى”، وكانت مهدًا للثقافات الهندوإيرانية. كانت الأساطير والقصص الشفهية، تنسجها الجدات على ضوء القناديل، تحكي عن الملوك والفرسان، وعن الخير والشر، في أطرٍ تشبه الملاحم.
وفي تلك المراحل الأولى، كانت اللغة الفارسية (دَري)، وهي إحدى لهجات الفارسية، الوسيلة الأسمى للتعبير عن الفكر والمشاعر، حتى أن كبار شعراء فارس كتبوا بلغة قريبة جدًا من الدري المنتشرة في كابل وهرات.
العصر الذهبي: عندما تنفّس الأدب من رئة الحضارة الإسلامية
مع دخول الإسلام، وتحديدًا منذ القرن التاسع الميلادي، ازدهر الأدب الأفغاني ازدهارًا هائلًا. في مدن مثل بلخ وغزنة وهرات، كتب الكبار شعرهم ومواعظهم، وكانوا ينسجون من الدين واللغة والروح ملحمة أدبية خالدة.
وكان من أبرز هؤلاء:
رودكي (من سمرقند، لكن أثره بلغ أفغانستان)، يُعد من أوائل شعراء الفارسية.
الفردوسي، الذي دون “الشاهنامة”، وقد انتشرت ملاحمه في المجتمع الأفغاني.
عنصري البلخي والفرخي السيستاني، وهما من بلاد أفغانية، كتبا شعراً في بلاط السلطان محمود الغزنوي.
ثم جاء العصر الأهم: ظهور جلال الدين الرومي، الذي وُلد في بلخ (في أفغانستان الحديثة)، وإن انتقل لاحقًا إلى قونية، لكن جذور رؤيته الشعرية والفلسفية ارتوت من أرض خراسان. مثنوياته غزلت من الحب الإلهي طريقًا نحو الخلاص، وأصبح شعره مرجعًا صوفيًا وإنسانيًا عالميًا.
الأدب الصوفي: حين صار الشعر طريقًا إلى الله
في أرضٍ عرفت الزهد والتصوف، لم يكن غريبًا أن يتحول الأدب إلى وسيلة للتأمل والاتحاد بالذات الإلهية. وظهر سنائي الغزنوي، الذي مزج بين الحكمة والفلسفة والوجد الروحي. ثم تبعه فريد الدين العطار والرومي، حيث تحوّل الشعر إلى طريق للنجاة وسط الفوضى.
اللغة البشتونية تصعد إلى المسرح
رغم هيمنة اللغة الفارسية، بدأت اللغة البشتونية منذ القرنين السادس عشر والسابع عشر تظهر بوضوح كوسيلة للتعبير الأدبي، لا سيما في الجنوب والشرق.
ظهر فيها شعراء كبار، مثل:
خوشحال خان ختك (1613–1689)، الذي يُلقب بشاعر الحرية، وكان فارسًا وشاعرًا وفيلسوفًا.
رحمان بابا (1653–1711)، الذي مزج الصوفية بالرقة والوجد، ويُعد من أعمدة الشعر البشتوني.
هؤلاء الكبار جعلوا من البشتو لغةً روحية وطنية، قادرة على التعبير عن الحب والوطن والحق.
الأدب الحديث: بين الصحوة والانكسار
مع دخول القرن العشرين، بدأ الأدب الأفغاني يتخذ أشكالًا جديدة. ظهرت الصحافة، والرواية، والمسرح، وبدأ الأدب يُعبر عن مشكلات الناس اليومية، لا عن التصوف وحده أو الملاحم.
وكانت كابل مركزًا للنشاط الأدبي، خاصة بعد تأسيس جامعة كابل عام 1932م، ومجلة “كابل”، وظهور دور النشر.
في تلك المرحلة، كتب الشعراء بالفارسية والبشتو والأوزبكية، وعبرت أعمالهم عن النضال ضد الفقر، والظلم، والاستعمار. وظهرت أيضًا أولى المحاولات النسوية في الأدب، رغم القيود الثقافية.
الأدب تحت الرصاص: أدب الحرب والمنفى
منذ الاحتلال السوفيتي (1979)، وما تلاه من حروب أهلية، وحكم طالبان، ثم الغزو الأمريكي، انقلبت الحياة في أفغانستان رأسًا على عقب. ومعها تغير الأدب. لم يعد الغزل ولا التصوف يحتلان الصدارة، بل المأساة، واللجوء، والدمار، والتشظي.
وظهر جيل من الأدباء الشباب، في الداخل والخارج، يكتبون بلغات عدة، منهم:
خالد حسيني، صاحب رواية عداء الطائرة الورقية وألف شمس ساطعة، وقد كتب بالإنجليزية لكنه حمل وجع كابل في قلب كل حرف.
عتيق رحيمي، الذي كتب رواية أرض ورماد بالفرنسية، وتُرجمت إلى العربية والعالمية، وأخرجها في فيلم صامت عن الحرب.
كما ازدهر أدب المنفى، وأصبح وسيلة للبقاء والمقاومة، وصوتًا لأفغان الشتات المنتشرين في إيران، وباكستان، وأوروبا.
الأدب النسوي: صوت الأنثى في العاصفة
رغم القيود، خرجت أصوات نسائية قوية، منها:
ناديه أنجمان، الشاعرة الشابة التي قُتلت في ظروف مأساوية.
سحر مرادي، وزهره حسين، وغيرهما، كتبن عن الحرية، والهوية، والألم الأنثوي في مجتمع يعاني الاضطراب.
الراهن والمستقبل: أي أفق لأدب تحت القيد؟
اليوم، يعيش الأدب في أفغانستان بين حالتين. فطالبان في حكمها الجديد فرضت قيودًا على الثقافة، وأغلقت مؤسسات تعليمية كثيرة، خاصة للبنات. لكن الإنترنت والشتات ساهما في استمرار الأدب الأفغاني كروح لا تموت.
الشباب يكتبون، في المهجر أو الخفاء، والنساء يكتبن، فلا تزال الكلمة هناك ترى نفسها مسؤولة عن الحقيقة والإنسانية.
ختامًا: الأدب في أفغانستان ليس مجرد كلمات تُكتب، بل هو مقاومة، وهوية، ومرآة لروح أمة. في كل بيت، قصيدة، وفي كل جدار مهدم، حكاية، وفي كل قلب أفغاني، شاعرٌ يتأمل جبال بلاده ويقول: “ما زال في الأرض ما يستحق الحياة… ولو كان بيتًا من كلمات”.
————-
يسري الخطيب