المشهور في كتب التفسير أنّ المُراد بقول الله تعالى: (آلاء ربِّكما) أيْ النِّعَم التي أنعم الله تعالى بها على الناس، ولكننا عندما نرجع إلى السياقات القرآنية المختلفة التي وردت فيها كلمة: (آلاء) نجد أنّ هذا المعنى بعيد، ولا تحتمله هذه السياقات.
وسنعرض فيما يلي بعض السياقات التي وردت فيها كلمة: (آلاء)، والتي يمكننا من خلالها الوقوف على المُراد الحقيقي بهذه المفردة القرآنية، والتي لا تدل على معنى النِّعَم، بل ربما دلّت في بعض السياقات على معنى النِّقَم والعقوبة.
1- يقول الله تعالى: (وأنه أهلك عادًا الأولى * وثمود فما أبقى* وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم وأطغى * والمؤتفكة أهوى * فغشاها ما غشى * فبأي آلاء ربك تتمارى * هذا نذير من النذر الأولى) النجم: 56 – 5.
والآيات السابقة تتحدث عن قدرة الله تعالى في إهلاك ومعاقبة الأقوام السابقين من المكذبين والكافرين، مثل: “عاد الأولى”، و”ثمود”، و”قوم نوح”، و”المؤتفكة”، ثم تأتي الآية: (فبأي آلاء ربك تتمارى) بصيغة الاستفهام الإنكاري للنبي صلى الله عليه وسلم، حيث تنهاه عن مماراة الكافرين الذين يكذّبون بالله تعالى وبقدرته وقوَّته، ويظنّون أنّ عقاب الله تعالى بعيد عنهم.
وفي قوله تعالى: (فبأي آلاء ربك تتمارى) إشارة إلى قوة الله تعالى وقدرته، وأنه صاحب الآلاء وهي القوة والقدرة والأخذ الشديد، ولا تشير الآية إلى النِّعَم كما يمكن أنْ يخطر ببال البعض، بل إنها تتحدث عن النِّقَم التي حلَّت بهؤلاء الأقوام المكذبين.
والذي يمكن أنْ نفهمه من سياق الآيات السابقة أنّ المُراد بقوله تعالى: (آلاء ربك) هو قوة ربك وطلاقة قدرته، وفعله المُعجِز غير المردود، وليس النِّعم.
2- قول الله تعالى: (كل من عليها فان * ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام * فبأي آلاء ربكما تكذبان) الرحمن: 26-28، ولا يُفهم من الآيات أنها تتحدث عن نِعَم يمُنّ الله بها على الناس، بل إنّ الآيات تتحدث عن قوة الله تعالى وقدرته على إفناء كلّ مَن على الأرض، وأنّ البشر لا يملكون شيئًا، وأنهم سيحُلّ بهم هذا الإفناء، وأنه لن يبقى إلا وجهُ ربِّك ذو الجلال والإكرام.
والحديث عن إفناء مَن على الأرض لا يأتي في سياق إنعام الله تعالى على الناس، ولكنه يأتي في سياق إظهار قدرة الله المطلقة، وقوته، وأنه وحده هو إله وربّ هذا الكون، وأنّ كلمة: (آلاء) لا تعني النِّعم، ولكنها تعني: القوة، والقدرة، والأفعال التي لا يقوَى عليها إلا الله تعالى.
3- يقول الله تعالى: (يسأله من في السموات والأرض كل يوم هو في شأن * فبأي آلاء ربكما تكذبان) الرحمن: 29-3.، والآية تتحدث عن قوة الله تعالى، وقدرته، وعظمته، وأنه تعالى كل يوم هو في شأن، يرفع أقوامًا ويخفض آخرين، ويُعز ويُذل، ويغني ويُفقر، ويؤتي المُلك مَن يشاء، وينزع المُلك ممَّن يشاء.
ولا تدل كلمة: (آلاء) هنا على معنى الإنعام والنِّعَم، بل على قدرة الله المطلقة، وهيمنته على خلقه، وقوته التي لا تدانيها قوة.
4- يقول الله تعالى: (سنفرغ لكم أيها الثقلان * فبأي آلاء ربكما تكذبان) الرحمن: 31-32، وفي الآية وعيدٌ من الله تعالى للمجرمين من الجنّ والإنس الذين كانوا في الدنيا يستكبرون عن آيات الله تعالى، ويكذّبون بها، وليس فيها أيّ إشارة إلى معنى النِّعم في كلمة: (آلاء)، بل إنها تشير إلى معنى قوة الله تعالى وقدرته، وأنه سبحانه سيُحاسب الجنّ والإنس، فيكافئ المُحسن منهم، ويعاقب المُسيء.
5- يقول الله تعالى: (يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان * فبأي آلاء ربكما تكذبان * يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران * فبأي آلاء ربكما تكذبان) الرحمن: 33-36.
والآيات تتحدى الكافرين، وتخبرهم بأنهم لن يستطيعوا الإفلات من موقف العذاب يوم القيامة، وها هي أقطار السموات والأرض أمامهم فَلْينفُذُوا منها فرارًا من مصيرهم، ولكنهم لن يستطيعوا النفاذ إلا بسلطان لا يملكونه، ولا ينبغي لهم، وإنهم إنْ حاولوا فعلًا أنْ ينفُذُوا، فإنّ في انتظارهم الشّواظ من النار والنحاس يرسلها الله تعالى عليهم فلا ينتصران، وسيكون مصيرهم العذاب في نار جهنم.
ولا يُفهم من قوله تعالى: (فبأي آلاء ربكما تكذبان) أنّ كلمة: (آلاء) تعني النِّعَم التي أنعم الله تعالى بها على الناس، فالسياق هنا سياق تهديد ووعيد، وسياق حديث عن العذاب الذي ينتظر المجرمين من الجنّ والإنس يوم القيامة، مع ما فيه من قوة الله تعالى التي لا تشبهها قوة، وما فيه من قدرة الله المطلقة على محاسبة المجرمين وعقابهم.
6- يقول الله تعالى: (فبأي آلاء ربكما تكذبان * فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان * فبأي آلاء ربكما تكذبان) الرحمن: 38-4.، فالآيات تتحدث عن يوم القيامة حيث تنشق السماء، ويتحول لونها إلى اللون الأحمر، ولا يُسأل الناس عن ذنوبهم كما في قوله تعالى: (ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون) القصص: 78، فكل ذنوبهم ثابته وموثَّقة عليهم في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
وليس في الآيات السابقة حديثٌ عن النِّعَم التي أنعم الله بها على الناس، ولكنها تتحدث عمّا ينتظر المجرمين من الحساب والعقاب، وتتحدث عن قوة الله وقدرته المطلقة في شقّ السماء وتغيير الكون: (يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات وبرزوا لله الواحد القهار) إبراهيم: 48.
والذي يُفهم من قوله تعالى: (فبأي آلاء ربكما تكذبان) أنّ الآلاء هنا هي قوة الله تعالى وعظمته وقدرته المطلقة، وهيمنته على كل الخلائق.
7- قول الله تعالى: (يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام * فبأي آلاء ربكما تكذبان * هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون * يطوفون بينها وبين حميم آن * فبأي آلاء ربكما تكذبان) الرحمن: 41-45، وهي آيات تتحدث عن عذاب المجرمين الذين يؤخذون بالنواصي والأقدام، ويُدَعُّون في نار جهنم دعًّا، ويطوفون بين النار وبين الماء المغلي الشديد الحرارة.
وليس في الآيات حديث عن النِّعَم التي يُنعِم الله بها على الناس، بل إنّ الحديث فيها عن النِّقَم التي تلحق بالكافرين يوم القيامة، وقوله تعالى: (فبأي آلاء ربكما تكذبان) فيه إشارة إلى قدرة الله تعالى وقوته وهيمنته على الخلائق، وهي المُراد من كلمة: (آلاء).
ومن الأمثلة والسياقات القرآنية السابقة يتبيّن لنا أنّ كلمة (آلاء) والتي مفردها: “ألْو”، و”أَلَى”، و”إِلَى”، و”أَلْي”، و”إِلْي”، تعني القدرة، والقوة، والفِعل المُعجِز غير المردود.
والتكرار لقوله تعالى: (فبأي آلاء ربكما تكذبان) في سورة الرحمن إنما يُشير إلى الآلاء والفِعال المُعجِزة التي سبق ذكرها، فالله تعالى يُعدّد على الناس آلاءه وقدرته وقوته وفِعَاله المُعجِزة غير المردودة، والمنبثقة من أسمائه الحسنى، ثم في كل مرة يستخرج منهم الإقرار بهذه الآلاء قائلًا لهم: (فبأي آلاء ربكما تكذبان)، فكل تكرار يتناسب مع السياق الذي جاء فيه، ويعود على ما سبقه من آلاء وقوة وقدرة وهيمنة.
ويُستأنس في فهم المُراد بكلمة: (آلاء) بما جاء في لسان العرب على لسان (مَيَّةَ بنتِ ضِرار) وهي ترثي أخاها:
كَريمٍ ثَناهُ، وَآلَاؤُهُ،
وَكَافِي العَشيرةِ مَا غالَها
تَراه عَلَى الخَيْلِ ذَا قُدْمَةٍ،
إِذَا سَرْبَلَ الدَّمُ أَكْفالَها..
والمقصود بقولها: (وآلاؤه): أيْ صفاتُه المحمودة، وفِعالُه الكريمة من القوة، والشجاعة، والإقدام، والحماية لعشيرته وقومه مِن كل ما يَدْهمُهم من الأخطار.
د. نصر فحجان – غزة