إن الإعداد -بصورته الشرعية التي تحاكي واقع الزمان والمكان ووسائله المتجددة حتى تكتسب درجة المعقولية في امتلاك صور القوة الموضوعية بالنظر للواقع المعين المستهدف والمقصود- هو شرط لازم يسبق المعارك الجهادية الكبرى التي تقتلع المحتلين وتهزم المشاريع المعادية التي تستهدف الأمة والدين.
ومن المعلوم أن فريضة الجهاد وسيلة وليست غاية، وهي في هذا تستوي مع وسيلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي تستهدف تمكين الدين والحفاظ على الخير وإشاعته، والتخلص من المنكرات والآثام والشرور وما ينزل الضرر بالخلق، وذلك على مستوى العقائد والسلوك لدى الفرد والجماعة والمجتمعات والدول.
إن فريضة الجهاد أوضح وأوجب ما تكون على أرض فلسطين المباركة، لاسيما وموجبات الجهاد مجتمعة بصورة متقدمة عن غيرها، إذ تجمع بين وجود محتل غاصب، ومشروع ثقافي معاد للمسلمين، وكيان مختطف لأقصى الموحدين.
الجغرافيا الفكرية والسلوكية المضطربة للحركات الإسلامية والجهادية!
لم تختلف الجهات العلمية والعلمائية المعتبرة حول تخطئة ما قام به الشيخين أسامة بن لادن وأيمن الظواهري في استهدافهما لأمريكا رغم طغيانها الكبير واعتدائها المشهود على العالمين العربي والاسلامي دولا وشعوبا.
إن التوافق الشرعي بين العلماء والدعاة والحركات الإسلامية باستنكار عملية ضرب البرجين لم يتحقق بسبب غياب التوافق حول ظلم أمريكا ومشروعها الصليبي المعادي للأمة وثقافتها، بل إن سر التوافق بينهم هو الإدراك الجمعي لشكل المآلات وطبيعة الشرور والآثام المقروءة والتي نتجت عن هذه الخطوة، وهو نفس المنطق الذي جعل القرضاوي يشكل وفدا لمطالبة طالبان الأولى بعدم هدم الأصنام القائمة على أرضها، رغم اعتلائها سدة الحكم بعد جهاد طويل في أفغانستان.
لكن هذا التوافق الاسلامي العلمائي والحركي لم يتحقق تجاه الخطوة الفلسطينية بإطلاق محارق الطوفان التي ارتبط القائمون عليها بإيران وعولوا على وعودها الأسطورية منذ أربعة عقود عجاف!
ورغم وضوح المآلات بشكل راجح بعد ثلاثة أسابيع على عملية 7 أكتوبر، وإجماع قيادات حماس والجهاد ومن حولهم على ضرورة إيقاف المعركة والمطالبة الدؤوبة بذلك -بعد أن اكتشفوا الورطة والفخ- إلا أن الإجماع الإسلامي لم يحصل كما حصل في واقعة بن لادن والبرجين، رغم التدهور الفظيع الذي لحق بالقضية الفلسطينية والاجتثاث المريع لشعب غزة، الأمر الذي يشير بوضوح لاضطراب منهجي بين الإيمان بالفرائض والأحكام الشرعية، وبين تنزيلها الصحيح على الواقع بما يؤول لحفظ الدين وليس الترويج لمشروع الملالي الضالين الايرانيين، وبما يؤول لحفظ مصالح المؤمنين، وليس الى تجويعهم وهتك أعراضهم وقتل رجالهم وإعدام مجاهديهم واغتصاب أسراهم واستحياء نسائهم وترويع الآمنين!
ومما لا شك فيه أن تضخم فريضة الجهاد -وليست شرعيتها-، كما تضخم فريضة إقامة الدولة -وليس الإيمان بوجوبها-، وغياب التعامل الراشد تجاههما، أسهم في خلخلة واضعاف مستوى التدين والالتزام بأحكام الدين -مقصد الرسالة- في المجتمعات المسلمة!
فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
لم تشهد التجارب والحضارات البشرية ثراء في الفقه كما شهدته الحضارة الإسلامية، وقد توسعت المذاهب الفقهية في الحديث عن فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وضوابطه، وحددت المقبول منه والمردود، كما حددت أشكال التصرفات باعتبار شخصياتها الاعتبارية.
وكما أن آلية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كانت سببا في حفظ الدين ورعاية مصالح العباد وحماية البلاد، وذلك من خلال فقه يضبطها ويحدد مساحات وأشكال تصرفاتها، فإن فريضة الجهاد تشكل صورة متقدمة حساسة وخطيرة من صور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي تخضع لنفس الضوابط ويجب أن تنضبط بالأشكال والأدوار الشرعية التي حددها فقهاء الشريعة بناء على الأصول المبثوثة في القرآن والسنة والسيرة، وهي صالحه لكل زمان ومكان.
إن القتال وسيلة اضطرارية لدفع منكرات عظيمة لا ينبغي أن تكون سببا لجلب شرور أعظم، وقد أشار القرآن الكريم إلى طبيعة الحروب الكريهة في قوله سبحانه: حتى تضع الحرب أوزارها.
ولذلك فإن المسلم الذي يعي فقه الجهاد وفق القرآن والسنة والسيرة وسلوك الصحابة الكرام، ينبغي أن يتحلى بأعلى درجة من الفهم والمسؤولية الواعية التي تبني قراراتها عن وعي شرعي واقعي معتبر للمآلات الراجحة، والتي لا تسمح بالمقامرة ولا المغامرة.
ويمكن القول بوضوح: إن شرف الجهاد وفريضته وسلامة مقصده لا تكفي وحدها لتجوزه وتصوبه وتحسنه، ولذلك كان الإمام القوي الفاجر خير للمسلمين من الإمام التقي الضعيف، وكذلك فإن سلامة الجهاد مقدمة على تقوى وصلاح قياداته، الأمر الذي يشير لقصور العقل الإسلامي المعاصر والذي قفز عن الأخطاء الجهادية باكتفائه بصلاح المجاهدين!
غياب الإمام لا يعطل القيام بالفرائض الشرعية!
كما انقسمت حركة الاخوان المسلمين على نفسها لأسباب تنظيمية لها علاقة بالنفوذ والصلاحيات والمال -إخوان مصر نموذجا-، فقد انقسمت الحركة السلفية على نفسها وشكلت عدة اتجاهات:
1/السلفية العلمية الدعوية.
2/السلفية السياسية الحركية.
2/السلفية الجهادية الظاهرية.
3/سلفية ولاة الأمر!
إن ما يعنيني في هذا المقام هو الاشارة الى خطأ بعض الاتجاهات والأصناف السلفية التي عطلت الجهاد نتيجة غياب الإمام، أو ربطته بولاة الأمر -المتربعين اليوم على عروش الدول العربية والاسلامية- رغم أنهم وكلاء الغرب في اذلال الشعوب، ومحاربة الفضائل وإشاعة الفواحش وقتل العلماء!
وبكلمة يمكن القول إن الفرائض الشرعية -بما فيها عموم الفرائض المتعلقة بالإمام- لا تتعطل بسبب غياب الإمام، كصلاة الجمعة والزكاة التي هي من مهام ولي الأمر، وكذلك فإن الجهاد الذي يدفع الشرور والاحتلال عن المسلمين وينقذ أرواحهم واجب في غياب الإمام كما في حضوره، وينوب عنه في هذا الأمر قيادة العلماء ومجموع الأمة، بل إن العلماء هم أصل الفتيا ومحل السوية في الفهم، فيا لعظم زلة من ربط بين تلك الفرائض بولاة الأمر القائمين في بلادنا على هدم الدين وتمكين الأعداء!
لقد شكل تعطيل فريضة الجهاد لدى بعض الاتجاهات السلفية العلمية بزوغ السلفية الجهادية الظاهرية، والتي نجحت أجهزة الاستخبارات الدولية في اختراقها واستثمار حركتها، بل وتوجيهها للجغرافيا السياسية التي تخدم تصوراتها في الهدم المطلوب، عداك عن أنها قد تميزت بفقدان المعقولية نتيجة قراءتها الظاهرية للواقع كما هو منهجها في تناول النصوص!
وفي نظرة سريعة للتجارب الفلسطينية السلفية القاصرة يمكن رصد نموذج الدكتور عبد اللطيف موسى وجماعة مسجد ابن تيمية، والذي قتلته وأنصاره حماس في مسجد ابن تيمية برفح، وذلك منعا وتحاشيا لمآلات خيار الدكتور عبداللطيف الجهادي وتوجهه لإقامة دولة اسلامية برفح في واقع محلي إقليمي ودولي مقروء، وقد عاجلته حماس رغم دعوته الشهيرة لإسماعيل هنية في خطبته في جمعته الأخيرة حين خطب حول النصائح الذهبية لإسماعيل هنية.
فهل التزمت حركة حماس بهذا المنهج والرؤية التي دفعتها لقتل جماعة مسلمة افتأتت عليها، وذلك حين قررت الجهاد وتحكيم الشريعة؟
يمكن القول إن ما وقع به الشيخ عبد اللطيف موسى من افتئات على قيادة غزة وحماس، قامت به القيادة الحمساوية أضعافا مضاعفة، وذلك حين افتأتت قيادتها العسكرية على القيادة السياسية للحركة، وذلك بتجهيزها وإطلاقها عملية 7 أكتوبر دون أن تخبرها، كما افتأتت قيادة حماس على عموم الشعب الفلسطيني وخصوص أهل غزة، وذلك بإعلانها معركة طوفان الأقصى بتعويل سابق على إيران، فكانت محارق وطوفانا قتل نصف أهل غزة بالرصاص، وقتل نصفهم الآخر بالجوع الرهيب، والذي جاوز جوع الصحابة الكرام في شعاب مكة!
الإعداد الشرعي شكل ومضمون تقرره مشاريع الأعداء وطبيعة التحديات!
أخطأ المجاهدون في عموم التجارب الفلسطينية عندما تبنوا رؤية قاصرة في معنى الإعداد، وذلك عندما اعتبروه محصورا بالحدود التي خطها سايكس وبيكو، دون أن يتوقفوا أمام حقيقتين هما:
أولا: قضية فلسطين هي قضية المسلمين!
إن قضية فلسطين هي قضية المسلمين في الماضي والحاضر، وباعتبارها أرض وقفية والأقصى جزء من عقيدة المسلمين، فإن المسؤولية الشرعية والسياسية نحوها تقع على عموم المسلمين ولا تختص بالفلسطينيين، الأمر الذي لا يجيز لأي حزب فلسطيني أو قائد تاريخي أن يفتئت على المسلمين بإصدار قرارات تاريخية تعيد ترسم حاضر فلسطين وتعيد صياغة مستقبل القضية الفلسطينية.
كما يشير ذلك إلى واجب شرعي يقع على عاتق عموم المسلمين ولا يعفيهم من المسؤولية التاريخية في الدنيا والآخرة، فالأقصى في هذا السياق لا يقل أهمية ومسؤولية إسلامية عن مكة والمدينة.
ثانيا: المشروع الصهيوني جاء مستهدفا لعموم الأمة، وهو أمر لا يضعفه اختيار الغرب إقامة ثكنة له على أرض فلسطين!
إن المشروع الصهيوني الذي جمع بين الرؤية الغربية الصليبية والأهداف اليهودية، جاء مستهدفا لعموم العرب والمسلمين، وخاصة إقليم مصر والشام والعراق، وقد قرر أن يبني ثكنته العسكرية على جيب من جيوب الشام ليعزل مصر عن سورية.
إن هذا الفهم يضع المسؤولية الشرعية والسياسية للتصدي لهذا المشروع على عاتق عموم العرب والمسلمين ولا تنحصر بالفلسطينيين، بل إن الفلسطينيين هم الحربة المتقدمة التي تقاتل عن الأمة جمعاء، وقتالهم لا يختزل في مطالب شعبية وإن كانت محقة.
الخلاصة
إن الإعداد المعتبر للمعارك الكبرى في فلسطين منوط بالأمة المستهدفة من قبل الصهاينة، والأمة المنتمية للأقصى، الأمر الذي يشير لقصور في تصور الإعداد الشرعي للجهاد في فلسطين، وهذا لا يمنع من مقارعة المحتلين.
مضر أبو الهيجاء جنين-فلسطين 21/6/2025