أن تعلن إيران أنها ألقت القبض حتى الآن على حوالي 700 ممن وصفتهم حرفيا «عملاء الموساد»، وأن تعلن مصر قبل فترة عن أن خلايا التجسس الإسرائيلي في مصر بعد توقيع اتفاق السلام عام 1979 تجاوز عددها 120 خلية تجسس، بل ان 86% -حسب التقارير الرسمية المصرية- من جرائم التهريب وتزوير العملات ارتكبها إسرائيليون داخل مصر، وبلغ عدد قضايا المخدرات التي شارك فيها إسرائيليون ما يعادل 420 قضية سنويا، وكل ذلك في عهد السلام ومع احترام مصري مطلق لكل بنود معاهدتها مع إسرائيل.
ذلك يعني أن التغلغل الأمني الإسرائيلي في المجتمعات والهيئات الرسمية العربية وجد المجال مفتوحا على مصراعيه من خلال معاهدات السلام، ولو رصدنا عمليات التجسس والاغتيالات في كل دولة عربية ممن انخرطت في معاهدة سلام مع إسرائيل، فان النتائج أكبر مما يتخيل أكثر الناس تشاؤما.
إن إسرائيل لا تبني أوهاما على السلام المزعوم، فهي تدرك -ومن خلال التاريخ القديم والمعاصر- ان العرب تمكنوا في خاتمة كل حقبة تاريخية من طرد الغزاة من رومان وصليبيين وعثمانيين وفرنسيين وبريطانيين وإسبان وإيطاليين.. الخ، لذا فان منع العرب من التطور أو الوحدة هو هدف استراتيجي إسرائيلي في زمن الحرب او في زمن سلام موهوم، واعتقد ان إسرائيل تفكر تفكيرا سليما من منظور أمنها، فهي لا تطمئن على الإطلاق، وعليها ان تندس في كل تفاصيل حياتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية، وتمثل عمليات التجسس وزرع العملاء ركنا مركزيا في ذلك، بل إنها وصلت مرحلة لتشكيل النظام السياسي في بعض الأحيان..
لدى إسرائيل مراكز أبحاث ومؤسسات تعليمية وخبراء ومؤسسات أمنية ينحصر عملها في بناء شبكات تجسس في الجسد العربي، وكما أنجزوا المستعربين في الأجهزة الأمنية للتغلغل في الجسد العربي والفلسطيني، فإنهم ينتجون جواسيسا يتقمصون شخصيات رجال الدين والممثلين والراقصات والعلماء والرياضيين والباعة المتجولين ورجال الآثار والطلاب، بل إنهم مندسون في أغلب شركات الأمن الخاصة ممن تستأجرهم الدول العربية، وهم ليسوا إلا عملاء لإسرائيل.. فلديهم مراكز لتحديد الشرائح العربية التي يتواجد فيها قدر من الشعور بالمظلومية بخاصة من الأقليات الدينية أو القومية او الفقراء، والعمل على استغلال هذا الشعور بالاضطهاد لتجنيدهم بدافع الغواية المالية أو الجنسية أو الانتقام من النظم التي يراها هؤلاء مسؤولة عن مظلوميته.
وهنا نسأل: كم مرة نقلت لنا الأخبار عن تجسس عربي على إسرائيل حتى في حالات الحرب، فما بالك في حالات وهم السلام، فالأجهزة الأمنية العربية إما تحدق في مجتمعاتها أو تتبع بعضها البعض، فحالات التجسس «اليهودي» على إسرائيل لصالح جهة عربية تكاد لا تزيد عن رقم واحد في أحسن الافتراضات، رغم أن حوالي 20% من يهود إسرائيل هم مهاجرون من دول عربية.
إن الدعاية السياسية القائمة على محاسن السلام وآفاقه تصلح مع أي مجتمع إلا المجتمع الإسرائيلي، فهي دولة تقوم على رؤية الإنسان بطبيعته الشريرة، وعقدة الاختيار الإلهي لهم التي زرعها موروثهم الديني يبرر لهم القيام بأي عمل مهما بدا للآخرين بأنه غير شرعي ولا أخلاقي.
بل حتى الولايات المتحدة-الحليف الأول لإسرائيل- لم تنج من التجسس الإسرائيلي الاقتصادي والتكنولوجي والعسكري والمعلوماتي بل والتجسس على الأفراد، ويكفي أن تعود للدراسة الاكاديمية لـ Duncan Clarke تحت عنوان Israel ‘s Economic Espionage in the US. لتكتشف أن إسرائيل لا تطمئن حتى لأقرب حلفائها، ولعل قضية جوناثان بولارد كافية لفهم ما نقصده.
لن تترك إسرائيل أي ميدان أو بلد عربي ليتطور دون أن تندس فيه، في مجتمعه ومؤسساته وأفراده، ومن الوهم الكبير الترويج لإمكانية التعايش مع هذا الكيان، فهم مندسون فينا كما قال مظفر النواب:
كالعِثةِ في بلد العسكر
تَفقس بين الإنسان وثوب النوم وزوجته
وتُقرر صنف المولود
وأين سَيُكوى ختم السلطان على إلْيَتِه.