في مناسبة ذات طابع تاريخي ووطني، أكد الرئيس الجيبوتي إسماعيل عمر جيله، رئيس الدورة الحالية لمنظمة إيغاد، أن بلاده منخرطة بالكامل في جهود الوساطة والمصالحة الوطنية في السودان، مشددًا على أن دبلوماسية جيبوتي لن تبقى على الحياد أمام ما وصفه بـ”النزاع الدامي” الذي يعصف بالسودان منذ أكثر من عامين.
جاءت تصريحات الرئيس الجيبوتي، خلال كلمته في الحفل الرسمي الذي أقيم الجمعة، بمناسبة الذكرى الـ48 لاستقلال جيبوتي عن الاستعمار الفرنسي، حيث تحوّلت المناسبة من لحظة احتفاء وطنية إلى منصة دبلوماسية إقليمية، سلط فيها جيله الضوء على أولوية الأمن والاستقرار الإقليمي في أجندة بلاده.
وقال الرئيس: “لا يمكن لبلد مثل جيبوتي، المتموضع في قلب القرن الإفريقي، أن يقف متفرجًا أمام حرب تمزق السودان شعبًا وأرضًا وتاريخًا، وتهدد في الآن ذاته مستقبل السلام والتنمية في المنطقة برمتها”.
وأضاف جيله أن جيبوتي، بصفتها عضوًا فاعلًا في منظمة إيغاد، وذات تجربة مستقرة نسبيًا في محيط مضطرب، تتحمل مسؤولية أخلاقية وجغرافية في الدفع نحو التسوية السلمية، مشيرًا إلى أن الحوار هو السبيل الوحيد لإنهاء الأزمة السودانية.
الخلفية: السودان في دوامة الصراع
تأتي تصريحات الرئيس الجيبوتي على وقع حرب دامية تشهدها السودان منذ إبريل 2023، بين الجيش السوداني بقيادة عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي). وقد أدت المعارك المستمرة إلى مقتل آلاف المدنيين، وتهجير أكثر من 8 ملايين شخص داخل البلاد وخارجها، بحسب تقديرات أممية، بالإضافة إلى تدمير ممنهج للبنية التحتية، وانهيار شبه تام للمؤسسات الخدمية.
ورغم محاولات سابقة للوساطة، سواء من قبل الولايات المتحدة والسعودية في محادثات جدة، أو جهود إيغاد في مراحلها السابقة، فإن النزاع ظل رهينة تعقيدات سياسية وعسكرية متشابكة، وسط تراجع ملحوظ في الزخم الدولي وانشغال العالم بأزمات أخرى.
جيبوتي.. دبلوماسية صغيرة في موقع استراتيجي حساس
جيبوتي، الدولة الصغيرة ذات الموقع الجيوسياسي الحساس عند مدخل البحر الأحمر، كانت على الدوام نقطة ارتكاز إقليمي للدبلوماسية الهادئة، وعرفت في السنوات الماضية بلعب أدوار متعددة في ملفات المصالحة الصومالية والإثيوبية الإريترية، وتسعى اليوم لتوظيف موقعها في دعم مساعي وقف الحرب في السودان.
ويرى مراقبون أن رئاسة جيبوتي للدورة الحالية لإيغاد قد تمنحها هامشًا إضافيًا للحركة والضغط على الأطراف المتنازعة، خاصة في ظل جمود المسار السياسي في الخرطوم وغياب أي أفق واضح لحل قريب.
تحذير من اتساع رقعة التهديدات
وفي كلمته، وجّه الرئيس جيله تحذيرًا صريحًا من أن استمرار النزاع في السودان يشكّل تهديدًا وجوديًا للمنطقة، ليس فقط على المستوى الأمني، بل أيضًا من حيث تعطيل مشاريع التنمية الإقليمية والبنية التحتية العابرة للحدود، في منطقة تعاني أصلًا من هشاشة اقتصادية وموجات متكررة من النزوح والصراعات.
مساعٍ لإعادة إحياء وساطة إيغاد
وبينما تعثرت الجهود الأممية والأفريقية سابقًا في تحقيق اختراق حاسم، فإن جيبوتي تسعى من خلال موقعها في رئاسة إيغاد إلى إحياء مسار التفاوض، عبر إعادة تفعيل اللجنة الثلاثية (جيبوتي، كينيا، جنوب السودان) المكلفة بالملف السوداني، وربما أيضًا إعادة طرح مبادرات جديدة لوقف إطلاق النار الإنساني على الأقل، كبداية نحو مسار سياسي شامل.
تصريحات الرئيس الجيبوتي إسماعيل عمر جيله تعكس تحولًا لافتًا في مواقف بعض دول الإقليم التي بدأت تدرك أن النزاع السوداني لم يعد شأنًا داخليًا، بل صار تهديدًا إقليميًا ذا تداعيات عابرة للحدود. وبينما تعاني المنطقة من أزمات متراكمة، فإن انخراط جيبوتي في ملف السودان قد يفتح نافذة دبلوماسية جديدة، تحتاج فقط إلى دعم دولي وإرادة سودانية حقيقية، لإنهاء واحدة من أطول حروب ما بعد الثورة في إفريقيا.